بريد استثنائي من قارئ استثنائي ..
بقلم : د.أحمد خيري العمري
لكل كاتب قارئه الافتراضي الخاص به ، قارئٌ ما يسكنه ، يساكنه ، يحأوره ، يوافقه على رأيه (غالبا!) أو يعترض عليه في كل جملة كالوسواس الخناس..
لكل كاتب قارئ افتراضي يسكنه و يتلبسه كالقرين..لا مفرَ منه ..له إيجابياته و لكن له أيضا سلبياته..ذلك أنه إذا تساهل كثيرا و تمادى في الثناء فأنه سيجعل ذلك الطاووس الموجود في أعماق كل كاتب يتضخم أكثر مما هو مقبول و ربما يتحول الطاووس إلى أخطبوط هائل الحجم يقتل أول ما يقتل صدق الكاتب و بالتالي موهبته..
أما إذا تمادى في العكس ، في النقد و التقريع و عدم الرضى ، فأنه سيحبط الكاتب ويجعل كتاباته حبيسة أدراجه ، أو -و هو الأسوأ- حبيسة صدره..
القارئ الافتراضي يمثل القارئ الذي يتصور الكاتب أنه يكتب له ، و يتصور أن ما يكتبه سيؤثر عليه ، يجعله يتغير ..يجعله يغير أفكاره على الأقل.. سيجعل حياته تأخذ منعطفا آخرا..
حياته ( ق . ك) “قبل الكتاب” لن تكون مثل حياته (ب.ك) “بعد الكتاب”…
قارئي الافتراضي الأول كان من الصنف الثاني الذي يتمادى في النقد لدرجة الإحباط ، وقد جعلني أكف فترة عن الكتابة ، بإصراره الدائم على الكمال الذي هو خارج نطاق القدرة البشرية ، لكني سرعان ما تخلصت منه ، فقد كان من نعم الله علي انه جعلني أتزوج أفضل امرأة يمكن لكاتب أن يحظى بها ..و بدلا من أن تقوم بالحيل و المكائد التقليدية التي تعزل زوجها عن أمه مثلا ، فقد قامت بطرد القارئ الافتراضي ، و حلت هي محله ، بل أذكر أنها هددتني بالويل و الثبور عندما لمست عندي رغبة في “إعادة كتابة” كتابي الأول..( تمت إعادة الكتابة لاحقا و لكن تحت عهود و مواثيق بعدم الاستمرار في ذلك إلى ما لا نهاية!)
و هكذا فان القارئ الافتراضي تم إبداله بقارئ حقيقي ، لا أنكر أن هذا القارئ قد يكون متحيزا ، متحمسا لهذا السبب أو ذاك لكن طالما كان ينتقد هنا و هناك أيضا ( كما هو الأمر معي و مع زوجتي ) فإنك تستطيع أن تؤمن بوجود حد أدنى من المصداقية..
الفرق الأساسي بين القارئ الحقيقي و القارئ الافتراضي هو أن الأول يقارن مع كتب أخرى ، لا يركز على الأمور الصغيرة و تفاصيل الهوامش ، أما القارئ الافتراضي و لنه يعيش في عالم افتراضي ، فانه لا يقارن بل يطالب بالكمال بالمطلق المستحيل و يدخل في متاهة التفاصيل و يضيع في متاهة صنعها بنفسه ( بعض القراء الحقيقيين يفعلون ذلك أيضا و ذلك لأنهم يعيشون في عالم افتراضي أيضا و لكن هذا موضوع آخر..)
و هكذا فقد حل القارئ الحقيقي محل الافتراضي ، ليس مع زوجتي فحسب ، بل أستطيع أن أقول أني قرأت البوصلة كله ، و لكن بالتدريج ، بصفحاته الستمائة ، على صديقي زيد..عبر الهاتف!
كما أن سلسلة “ضوء في المجرة” كان لها جمهورها الصغير ، المكون من زملائي و من زملاء زوجتي في العمل ، و كان هؤلاء يقرؤون – غالبا- قبل أن يقرأ الشخص الذي كتبت السلسلة له..
و كان هـذا كـله قـبل صـــدور كتـابي الأول..
مع صدور “البوصلة..” لم يعد الأمر مرتبطا بقارئ افتراضي تم طرده من حياتي لكي أستمر بالكتابة ، و لا بقارئ حقيقي هو زوجتي أو أصدقائي..بل صار يتعلق بقارئ لم اعرفه من قبل ، لم أره و لم ير مني غير كتابي الذي دفع ثمنا له..و لا يملك سببا أو دافعا للمجاملة أو الدعم..كما قد يفهم من زوجتي أو أصدقائي..
منذ أول رسالة من قارئ استلمتها بعد حوالي 6 اشهر من صدور كتابي الأول و أنا أتفاعل مع تفاعل القراء معي..أفهم جيدا أن كتّابا ربما يكونون أفضل مني مرّوا على الأرض دون أن يجدوا قارئا واحدا يثني عليهم في رسالة..أفهم أن هذا قد لا يعود لموهبتي المفترضة بقدر ما يعود لتوقيتها..حيث تزامنت مع الانفجار الهائل الذي حدث لوسائل الاتصال ، و صار من السهل جدا على أي قارئ أن يتواصل مع كاتبه و يبوح له بكل ما يريد و هو أمر كان أكثر تعقيدا و صعوبة حتى عقدين ماضيين..
بكل الأحوال.. و لأن نتاجي تنوعت أشكاله ، فقد استلمت رسائل من أجيال مختلفة ، استلمت رسائل من مراهقين في السادسة عشر ، و من شيوخ في عقدهم السابع ، من طلاب صغار في الجامعة ، و من أم قرأت لبناتها الصغيرات كتابي..(أي أن التصنيف العُمري لقرائي كان يشمل الأعمار من 7 إلى 77!!)..
استلمت رسائل من موظفين يحتلون مناصب مرموقة ، كما من مهنيين كسبة قالوا أنهم تعلموا الدخول على الشبكة فقط لكي يرسلوا لي تلك الرسالة..
بعض هؤلاء القراء تجاوز منزلة القارئ ، على اعتزازي بها ، إلى منزلة الصديق المقرب الذي أثق برأيه و نقده ، بل صار هناك حلقة ضيقة منهم ترى نتاجي و تنقده و هو في مراحله الأولية.. وهناك سيدة جليلة ، لم تعد قارئة و ناقدة و مستشارة فحسب ، بل صارت بمثابة الأم الروحية لي.. أدامها الله لي و لبقية أولادها..
إذن لا شكوى لدي إطلاقا ، فقد أنعم الله علي بذلك التواصل المضيء الذي قد يكون العزاء الوحيد الذي يحصل الكاتب عليه في هذه الأرض ، فدرب الكتابة فد يكون موحشا ..و الهدف قد يبدو بعيدا لدرجة أن الإحساس باللاجدوى يكون الإحساس المنطقي الوحيد ..و لكن يأتي “بريد القراء” بين الحين و الآخر ليمدنا – بفضل الله- بتلك الإشارات أن أستمر..أنك لست وحدك..
إذن كان القارئ الحقيقي ، بالنسبة لي ، أفضل بكثير ، ليس فقط من قارئي الافتراضي الذي بدأت معه ،بل من أي قارئ افتراضي يرغب فيه أي كاتب ! .. لقد كان كما أريد .. و كما أفترض..و أكثر!
و كل هذا مجرد مقدمة لما أريد قوله الآن ..
فقد وصلتني مؤخرا رسالة من قارئ بالنيابة عن مجموعة من القراء.. رسالة ما تخيلت أني سأستلمها أو أتشرف بقراءتها في حياتي..بل لم أفكر يوما أن كلماتي ( في هذه المرحلة) ستتمكن من الوصول من حيث كتبوا..خلف الأسوار المحصنة..خلف القضبان ..خلف جدران سجون الاحتلال..
نعم! إنها منهم .من الأسرى هناك ..بعثوا برسالة بلا توقيع ، من خلال شقيق واحد منهم، قالوا فيها ما قالوه ..و قالوا أيضا أنهم يتدارسون احد كتبي و طلبوا “الإذن” بإجراء بعض التعديلات لأغراض الدراسة..
كل من راسلني ، و كل من تمنيت يوما ما أن يراسلني كان في واد ..و هؤلاء كانوا ليس في واد آخر ..بل على قمة جبل شاهق..
أقول : يا لبؤس اللغة ! بل يا لبؤسي ! لأن أبجديتي تقف خجلة و هي تحاول أن تعبر عما أريد قوله الآن ..ليس فقط لأن كلماتي اخترقت الجدران ، و كنت اعتقد أن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا بعد فترة طويلة و بعد رحيلي أيضا ..و لكن أيضا لأن كلماتي فهمت تماما..فهمت في سياقها الصحيح و حيث يجب أن تفهم.. ذلك أني لم اكتب تقريبا في القضية الفلسطينية بشكل مباشر.. ولكن كل ما كتبته كان يصب فيها بشكل أو بآخر..ذلك أن القضية في جوهرها ترتبط “بتخلفنا” مقابل “تقدمهم”..و بتخلفنا أقصد تخلفنا عمّا يجب أن نكون ، عن قيمنا ، عن كتابنا..و بذلك تكون النهضة.. النهضة الشاملة الحقيقية ، من الألف إلى الياء، هي الحل الحقيقي للقضية الفلسطينة ، بمعزل عن كل الحلول الجزئية الأخرى التي جرّبناها و تجرّعنا نتائجها..
فرحت بالرسالة كما يفعل العشاق برسائلهم..و تكتمت عليها كما يفعلون ، أرسلتها لقارئي الحقيقي الأول ( زوجتي ، كما لا يفعلون!)..
لكن بعد الفرح وجدت نفسي أمام عبء جديد ..هؤلاء القراء ليسوا أفضل مني كشخص فحسب ( هذه سهلة!) بل ربما هم أفضل منا جميعا..لقد جسروا تلك الهوة التي نسقط فيها بامتياز ، الهوة بين الفكر و السلوك..قدموا حريتهم مصداقا عمليا لأفكار نتحدث نحن عنها في الصالونات و على صفحات الجرائد و الكتب..
ذلك كله يضعني و يضع أحرفي أمام مسئولية جديدة ..أمام ذلك الجسر الذي يفصل بين الفكر و السلوك ، بين الكلمة و التطبيق ، بين الهدف و التحقيق..
أتمنى مخلصا أن أكون على قدر تلك المسئولية..أن تكون حياتي ب . ب (بعد بريدهم) مختلفة عن حياتي ق . ب ( قبل بريدهم )..
لهم ليس أذني فقط كما طلبوا..
بل لهم، ( بالعراقي )، عيني ..و ماء عيني..
التعليقات:
1 |
|
|
مرات
القراءة:
3698 |
|
|
تاريخ
النشر: 26/03/2009 |
|
|
|
|
|
|