حوار مع الناشر علاء الدين آل رشي - 1 -
بقلم : ريما محمد أنيس الحكيم
علاء الدين آل رشي
تشير أحدث الدراسات إلى أن حصة كل مليون مواطن عربي من الكتب لا تبلغ أكثر من ثلاثين كتاباً، بينما تصل في أوروبا إلى ستمائة كتاب، وأن نسبة النشر في الوطن العربي تشكل واحداً في المئة، بينما تصل في الجانب الآخر إلى الستين !
في ظل غياب القراءة عن ساحة اهتمامات الشباب العربي، كان لموقع رسالتي هذا الحوار مع ناشر شاب يدعم القراءة ويملك مشروعاً ثقافياً حقيقياً يقوم على الحرية والديمقراطية والانطلاق من قيود التفكير المحنط ومن براثن الثقافة الراكدة...
علاء الدين آل رشي المدير الإعلامي في مركز الناقد صواب يحتمل الخطأ وهو ناشر إشكالي مدَّ جسور مركز الناقد بين المتناقضات ومؤسسته من دور النشر التي تحظى بمعارضين ومؤيدين ولكن الشيء المتفق عليه الانفتاح والتسامح في ما ينشره والبعد عن الاستنساخ إلى الاستنتاج...
الحوار كان بلا مكياج ...
واستنطق تجربة واعدة وتحدث الرجل عن وعيه للثقافة ومهمات النشر، وعقلية وآلية مركز الناقد الثقافي في التعامل مع الطيف الفكري...
قد يلمس القارئ عزفاً منفرداً عن آخرين ولكنه عزف على كل حال يحتاج إلى مستمعين أذكياء...
أترككم مع الجزء الأول من الحوار الذي تناولنا فيه أزمة القراءة وتحدث فيه عن مشكلات في تيه الوعي العربي، وعن المشهد الثقافي العربي ..
لأعود إليكم في المرة القادمة في الجزء الثاني من الحوار الذي يتحدث فيه الناشر علاء الدين عن مركز الناقد وتوجهاته وأفكاره..
مشكلات في تيه وعي الناشر العربي
رسالتي ـ ما القضايا الكلية التي يتوجب على الناشر استغلالها؟
لم أفهم سؤالك فأرجو التوضيح !
رسالتي ـ أي ما القضايا التي ينبغي للناشر أن ينشرها ؟!
نعم فهمت، لا أستطيع أن أحدد الواجب على أحد فهذا خلق أحاذره، ثم إنني أجد في ذلك تعميمية لا تقرأ الواقع بوعي وتفريق ونسبية!!
قد نرى بيئة مثقلة بناشرين لا همّ لهم إلا كتب التراث وهؤلاء نطالبهم البصر والاعتناء بالعصر الراهن، وشبهه وأوهامه وفتوحاته وانتصاراته، وآخرين لا يبالون بثقافة أمتهم فهؤلاء نذكرهم بأن الإرث العربي والإسلامي فيه ما يستحق النشر، ومن هنا برزت لدينا فكرة سلسلة ذخائر الفكر العربي والإسلامي وقد صدر منها :
1. حقيقة العلاقة بين السنة والشيعة [1] الدكتور محمد سليم العوا.
2. تجديد التفكير الديني في الإسلام . الفيلسوف الشاعر محمد إقبال.
أعتقد أن على الناشر أن يكون معترضاً ومبشراً وصاحب مشروع، إنها الرؤية التي ينبغي أن تحكم أخلاق الناشر وهي القضايا التي ينبغي للناشر أن ينشرها ..
رسالتي ـ هل من توضيح ؟
بكل تأكيد، أي : أن يعترض الناشر على الراهن الفاسد وجوعه الفكري، أي أن ينقل الفكر من الاستنساخ الدقيق إلى الاستنتاج العميق وأن يروي عطش الروح، وأن يبشر بثقافة السلم والعلم، وأن يكون له مشروع؛ أبجدياته الحقيقية: الحروف الإنسانية.
هذه أهم القضايا التي ينبغي للناشر أن يدافع عنها: السلم والعلم والإنسان والوعي بالراهن وتعقيداته .
رسالتي ـ وهذه القضايا أليس لها من توجه ؟
لتكن وجهة ما ننشره من قضايا :
· الرحمة وليس النقمة، الوحدة وليس الفرقة.ورحم الله الصالح الفرفور الذي قال:
هل مـن يُســـوِّي قلوبــاً قد تَخلَّلهــــا داءُ التشـتــــت ؟ إنَّ الـــداءَ قــتــالُ داءُ الـتـفـــــــرق داءٌ لا دواءَ لـــه يمحــو الشــعوب وتشقى منه أجيــال لــولا التـنـابذُ و الـشحناءُ مـا قُبضـــت منــا النواصــي و لا صــالوا و جـالوا
· لتكن غايتنا روح مرهفة تسبح باسم الله، إنسانية النزعة، ربانية الوجهة، محمدية القدوة، إنسانية الأفكار، وهذا لا يعني القطيعة والانزواء، إنه قمة التعايش مع الحياة وفق منظومة تحيا الحياة باسم الله وتدافع عن الإنسان بغض النظر عن توجهاته وأفكاره ومعتقداته.
· أطمح أن يعيش الناشر فكرة المواطنة كل الطوائف بكل تلوناتها واهتماماتها تعيش في دائرته الفكرية .
انظري مثلاً إلى ثقافة الفن التي يطلقها الصديق موسى مصطفى إنها ثقافة فنية رائدة تمثل نقوشاً على مشروع فريد تشكله أصابع ماهرة تعيش الطاعة بوعي وحضور إنها كشراب سائغ للجميع وهذا ما نريده: ثقافة جمّاعة متفردة ومتمردة على الشكلانية والتقليد !!
ـ ترى أليس تعايش الأفكار يغني عن لظى النار ويمنع من تحويل الثقافة إلى ثرثرة أو فتن؟.
ـ نحتاج حقا ً إلى ألف عدنان سالم، وألف محمد دولة، وألف راتب قنطار، وألف عادل عساف، وألف دار المدى، وألف من دار الأهالي عافى الله صاحبها.. نحتاج إلى فرسان نبلاء بالآلاف، إنها أطياف لناشرين تتباين رؤاهم ولكن الجميع يعبر عن رسالة وتوجه.
· لتكن قضايا الناشر الأولية هي: الهم الثقافي لكل المجتمع ودور المثقف الناشر أن يدافع عنها بحيادية وثقة.
تأملي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكلٍ أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)).[2] نحتاج إلى مسارات فكرية متعددة تعيش لقضية مقدسة هي الإنسان أولاً فالفكر ليس إرهاباً والدين ليس دكاناً، والدين ليس يداً تُقبِّل والدين ليس لساناً، والدين ليس ديناميتاً، الدين فكرة وإرادة ورحمة وإنسانية.
والفكر ليس تقوقعاً إنه استيعاب، وليس انبطاحاً إنه مواجهة ومناصحة مكاشفة ومفاتحة.
إن الفكر مهما تم تعليبه وتخويفه فله قوة وله قدرة على الانتفاض وفي هذا السياق تحضرني قصة معبرة للكاتب الأستاذ محمد الماغوط يرحمه الله تعالى : ((يحكى أن نمراً في سيرك هندي بعد أن تقدم به العمر وأحيل على التقاعد كأي دركي عجوز، دفن رأسه بين قائمتيه وانزوى بعيداً عن الأعين، لكن الحيوانات الأخرى لم تتركه وشأنه فراح كل ما في السيرك من قطط صغيرة وقردة وثعالب وسحالي وببغاوات وسعادين يتحرش به ذهاباً وإياباً. وهو صامت لا يروم، تعففاً وسأماً، ولكن في يوم من الأيام عندما زادوا من تحرشهم لم يطق صبراً على ذلك. فانتظرهم حتى مروا قافلة واحدة ورفع يده وهوى بها عليهم. فقضى على الجميع بضربة واحدة.)) [3]
سهام الأفكار أجدى من رصاص النار، ولا عاصم لمجتمعاتنا إلا بفكر الأمان ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعويد الإنسان على احترام إنسانيته .
رسالتي ـ طيب لننتقل إلى أزمة الكتاب في زماننا: أزمة فكرة، أم أزمة نشر وتسويق؟؟
أكره الثنائيات وأراها تختصر الحقائق والواقع في مفردات غير معبرة ومع هذا فأقول لك أزمة الكتاب تعاني من:
· غياب القارئ المتلهف.
· فقدان الناشر المحترف.
· اندثار المبدع المؤلف.
هذه الثلاثية هي الغصون ولها تجليات وصور وجذور.
رسالتي ـ ثلاثية رائعة ؟!
لكن ماذا تعني بالتجليات والصور والجذور؟
إنها جذور وصور هذه الثلاثية :
· طبيعة العقل العربي حيث يميل إلى حديث الشفاه .
· صورة المتلقي، إننا نميل إلى الحكم الصوري الذي نشاهده وليس إلى الحكم القائم على التتبع والاستقراء، بمعنى أننا لا نميل إلى كد العقل وإقامة مناعة فكرية بمقدار ما نميل إلى التلقين والترديد وهذا ما يفسر لك العزوف عن الكتاب.
أزمة الكتاب متعددة ومعقدة يلزمها حرية ومال ودعم ومساندة كي نعيد للكتاب مكانته وللعقل العربي وهجه.
رسالتي ـ كيف تفسر أن بعض دور النشر تقول إنها تحتضر وأننا أمة لا نقرأ ومع هذا نجد أن دور النشر تتوالد بكثرة وكل يوم هناك دار نشر جديدة؟!
أحسنت هذا سؤال ذكي، ويدل على وعيك وفهمك للخارطة الثقافية وتناقضاتها، إنها مفارقات التيه العربي .
يقول ابن القيم عن التصوف يرحمه الله تعالى: (كان التصوف حرقة فصار حرفة كان في بواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب)، وفي قول ابن القيم إشارة إلى التحول الطبيعي للفكرة من حيث الانتماء إلى حيث الاشتهاء أي لم تعد فكرة النشر عند الكثيرين هي مشروع بناء ثقافة بمقدار ما هي تكبير جيب وقد اخترع بعض الناشرين كتّاباً تحت الطلب فلكل صرعة ومشكلة كتاب، ويضحكني جداً أن مديراً لأحد المكتبات اتصل بي يسألني عن باحث يكتب له عن شخصية تاريخية يعرض لها مسلسل في رمضان وقد ألح علي أن أدله على كاتب كي يتفق معه على كتابة بحث تجاري عن الشخصية.
إنها مهزلة.
ورحم الله الصادق النيهوم الذي قال: ((إن العجز عن القراءة نوع واحد من أنواع الأمية فقط. وهو أيضاً الشكل الخارجي لها الذي يستطيع المرء أن يلمسه بأصابعه، ولكن ذلك لا يعني بأي حال أن (الأمية) تبدو دائماً في هذا الشكل الواضح بالذات. إنها تصبح أكثر وضوحاً وأكثر خطورة ومدعاة للخسارة عندما تختفي وراء قناع القدرة على القراءة، ويصير بوسع (الأمي) أن يقرأ لك أفكاره المشوّهة من فوق منصة الخطابة، ويخدعك عن سمها القاتل بالبديهيات التي تبدو من الخارج منطقية ومغرية.)) [4]
إن ولادة بعض دور النشر التي تطبع لكل وقت كتاباً، يوحي أن سوق النشر بات يرفض الجاد ويطلب الغث حيث يحز في القلب أن تجدي رسالة صغيرة تبيع مليون نسخة وهي لا تعدو عن ورقات تقدم بدهيات أولية وأن كتباً تباع بطبعات لأن مسلسلاً يعرض أصحابها.
هناك كتب تباع هذا صحيح، وهناك دور نشر أفلست هذا صحيح، وهناك أزمة في القراءة هذا صحيح، المشكلة معقدة كما ذكرت لك سابقاً .
والمفارقات موجودة والأدعياء كثر.
رسالتي ـ هل يتحمل الناشر إثم قلة القراء لأنه بالأصل دخل في مهنة بلا مشروع أو رسالة أو أصبح النشر مهنة من لا مهنة له؟
لست في موضع القاضي كي أحمل المسؤولية على أحد فالجرح عميق ولن يندمل لو وضعنا السبب على جهة بحد ذاتها كما أني لا أبيح لنفسي الدخول إلى نوايا الناس فأقول: هذا دخل بقصد رسالة وآخر بغرض مادي، وإن كنت في النهاية أحمل مسؤولية - السكر الخفيف للثقافة والكتاب في بيوتنا– على الجميع دون استثناء.
هل رأيت برنامج الفنان عمرو دياب وكيف حقق نجوميته وتلك الحشود الإعلانية له قبل وبعد بثه ؟!
وبالمقابل أين مثيلاتها لدعم عبد الوهاب المسيري، ومحمد الغزالي، وعبد الكريم الرفاعي، وأحمد كفتارو، وطيب التيزيني وأحمد زويل، ومحمد حسين هيكل، وأبو الفرج الخطيب، وجمال القاسمي، ومحمد كرد علي، وعباس محمود العقاد!!
إن واقعنا محكوم بـ (الجمهور عايز كده) على حد تعبير الإخوة المصريين.
والإعاقة الثقافية والهدم الذي نعيش عليه إثم يحمله العرب بكل شرائحهم.
رسالتي ـ لكن من ثمارهم تعرفونهم ونحن نشاهد إصدارات ودور نشر بلا عنوان فكري أليس هذا يسهم في أزمة الكتاب ؟!
هذا صحيح لكن قلة القراء مشكلة تاريخية في الحالة العربية ولا تنطبق على الكتاب الذي تطبعه دور النشر، بل حتى في المدرسة والجامعة والعمل هناك ميل واضح إلى الملخصات والمستخلصات.
نحن في بيئة غالباً لا تحب القراءة وجذر ذلك أننا لم نجعل القراءة عبادة أو عادة.
بإمكان المرء أن ينطلق مما ورد بتقرير التنمية الإنسانية العربية للسنة 2003 المخصص لإقامة مجتمع المعرفة للوقوف على خلفية وطبيعة الفشل إياه.
والتقرير على الرغم كما يذكر بعض الباحثين من علله ونواقصه يبقى مع ذلك جرداً جيداً لواقع المعرفة بالمنطقة العربية واجتهاداً لا بأس به في تحديد مكامن الخلل:
· يحدد التقرير مجتمع المعرفة بالقول: "المقصود بمجتمع المعرفة على وجه التحديد إنه المجتمع الذي يقوم أساساً على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد, المجتمع المدني والسياسة والحياة الخاصة وصولاً لترقية الحالة الإنسانية باطراد أي إقامة التنمية الإنسانية".
بالتالي فحظ مجتمع ما من اكتساب المعرفة ومدى توظيفها في خدمة التنمية الإنسانية هذه رهين بالبنى المجتمعية القائمة: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
هذه البنى هي التي تضمن شروط وظروف تدفق المعرفة بين جميع وحدات إنتاج وتوظيف المعرفة.
· إن نشر المعرفة (وفي صلبها إشكالية القراءة) رهين:
ü بظروف التنشئة الاجتماعية (عائلة متسلطة أم متساهلة, محيط مرن أم قاس إلخ).
ü دور التعليم بكل أطواره من السنة الأولى إلى أطوار الدكتوراه (نوعية التعليم, السياسات التعليمية, طبيعة المواد الدراسية الخ).
ü وسائط الإعلام والاتصال: دور الإعلام السمعي والبصري, الصحف والمجلات, الكتب, دور النشر, الارتباط بالشبكات الإلكترونية بلوغا وتوظيفا, حجم الترجمة ونوعيتها الخ.
ü إن إنتاج المعرفة هو المدخل المركزي لبناء المجتمعات المعرفية...وإنتاج المعرفة المقصود هنا مرتبط بنواتج البحث العلمي والتطوير التكنولوجي (براءات اختراع, تطبيقات, عدد العاملين بهذا المجال وكذا الإنتاج العلمي في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية).
ü إن إنتاج ونشر وتوزيع المعرفة رهين بتوفر مناخ من الحرية وتقليص حجم الرقابة ومصادرة الرأي وخلق البنى المادية لرواج المادة المعرفية وما سوى ذلك.
كل هذه العناصر, يقول التقرير, غير متوفرة بأي بلد من بلدان المنطقة العربية ويستوجب قيامها توفير ما يسميه التقرير بـ"الرؤية الاستراتيجية" لإقامة أركان مجتمع المعرفة:
· إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح.
· النشر الكامل للتعليم راقي النوعية مع إيلاء الأولوية للتعليم في مرحلة الطفولة المبكرة والتعلم المستمر مدى الحياة.
· توظيف العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير بغرض اللحاق بمجتمع المعلومات.
· التحول الحثيث إلى نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية.
· وتأسيس نموذج معرفي عربي عام, أصيل, منفتح ومستنير مبني على اللغة العربية والترجمة وتوظيف التكنولوجيا.
رسالتي ـ أستاذ علاء لماذا كان اعتمادك على تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2003؟!
لأن اللجوء إلى التقرير إياه كما يذكر بعض الباحثين إنما الغرض منه تبيان والتدليل على ثلاثة أمور قد لا يختلف المرء حولها كثيراً:
· الأول: أن إشكالية القراءة هي بداية الأمر وبالمحصلة من أزمة إنتاج وتوزيع وإشاعة المعرفة عموماً ومن وضع هذه الإشكالية في السياق العام وليس فقط في سياقها الخاص.
· الثاني: أن الظروف الذاتية قائمة وحقيقية (قدرة شرائية, أمية, ضيق السوق الخ) لكنها لا تصمد كثيراً أمام الظروف الموضوعية المتمثلة في سياسات خنق الحريات الفردية والجماعية والتسلط الذي يطبع النظام القائم ونظم التنشئة الاجتماعية وغياب الإطار السليم الذي من شأنه أن يفتح في السبل لإشاعة قيم العلم والمعرفة.
· الثالث: أن النهوض بالقراءة هو من النهوض بكل عناصر التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أي بالعناصر المؤسساتية والبنى التحتية وما سواها.
كل ذلك يتم في إطار نظرة شمولية ووفق رؤية.
رسالتي ـ هل يعد اعتبار مهنة النشر مهنة تجارية صرفة من أسباب أزمة القراءة؟؟
أختلف معك تماماً فالذي أراه من واقع التجربة أن الأكثر نشراً للكتاب هم التجار الذين سخفوا الكلمة بل قد باعوا كتباً لا تقرأ وبكميات مخيفة.
الذين اغتالوا الناس بالروايات وكتب الأنساب وكتب عذاب القبور والتخويف من النار وكتب الأدعية المبتدعة وكتب وكتب.. هؤلاء باعوا وربحوا تجارياً وجعلوا الناس يقرؤون الخدر العقلي.
لا تنحصر المشكلة في تحويل الثقافة إلى تجارة فقط، ولكن أيضاً في إعياء وإنهاك القارئ العربي والمسلم بما شذ من دراسات، هناك دور نشر تسهم في خلق عقل لعوب لا يعرف من الوعي شيئاً وهؤلاء يبيعون وتسهل لهم المشاركة في المعارض الدولية.
إن تحويل النشر إلى تجارة شيء طبيعي وواقعي ولا تستثني من ذلك ناشراً فنحن في النهاية ما لم ننجح اقتصادياً لن نستمر في تقديم مشروعنا الثقافي، وليست المشكلة أن أستحضر الربح والخسارة في عملي ولكن المشكلة كل المشكلة أن أجعل من النشر حرفة تفوح منها رائحة كريهة بحجة التكسب.
إن من حول النشر إلى تجارة نجح في استقطاب جمع كبير من القراء لثقافة التنجيم وإطالة الأظافر والتسريحات وعضلات البطن نفخاً ولياقة وغيرها.
لست مثالياً حتى أقول لك إنني ضد التجارة في النشر فالمحصلة لكل من يعمل في مهنة أنه يريد أن يعيش ويكفي نفسه وأهله وتستمر مؤسسته لكن لم لا يتخلق الناشر بقوانين التحضر التجارية.
رسالتي ـ ماذا تعني بالقوانين المتحضرة التي من الممكن أن يلتزم بها الناشر؟
قوانين التحضر التجارية التي أقترحها على كل ناشر هي:
ü المصداقية: يعني ينشر ما ينتمي إلى المعرفة وليس ثقافة التنجيم واللف والدوران.
ü الأمانة: بحيث يلتزم بما يغذي الفكر والوجدان وينشط العقل ويطلق الروح.
ü الالتزام: بقضايا النهوض والتغيير والمسؤولية وعدم القفز على الواقع أو توهين الأمة بمنشورات طائفية تحرض على الدم والفتن.
ü الإنصاف للمؤلف من حيث حقوقه.
ü الاعتدال في تقييم أفكارهم فلا يعطونها صفة القداسة أو العصمة أو الإطراء الزائد.
ü التعاون والالتزام في علاقته التجارية مع الناشرين .
رسالتي ـ لكن هل هذه ميثاق أو عرف تجاري، أو بالأحرى ما مصدرك لهذه الشروط؟!
لقد استقيت هذه الشروط من حديث حضاري قاله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا (المصداقية) وإذا ائتمنوا لم يخونوا (الأمانة) وإذا وعدوا لم يخلفوا (الالتزام) وإذا اشتروا لم يذموا (الإنصاف للمؤلف) وإذا باعوا لم يطروا (الاعتدال في تقييم الأفكار) وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا (التعاون والالتزام في العلاقات التجارية) [5]
رسالتي ـ طيب برأيك كناشر هل يمكن التعامل مع مهنة النشر على أنها مهنة مربحة واستثمارية مع كونها تحترم العقل العربي وتقدم له ما يفيد وتترك النشر لأجل المال فقط؟
إنها معادلة صعبة ولكن وبصدق مهنة النشر تحتاج إلى عبارة يرددها أستاذي عدنان سالم: عمر نوح ومال قارون وصبر أيوب، لذلك غالب الناشرين المحترمين خلطوا كتباً تجارية بكتب فكرية كي يستمر العطاء.
رسالتي ـ ما أسباب القولبة الذهنية التي ابتُلي بها عقلنا العربي في عصرنا الحالي، وهل تعتبر من أسباب تخلف العقل العربي في حقل القراءة وانعدام تأثيره الفكري؟.
هذا سؤال صعب ويحتاج إلى مؤسسات بحثية ولكن من الممكن أن أذكر ما يقوله الأستاذ عبد الحليم أبو شقة: إذا كبل هذا العقل وسلب حريته فلابد من تحريره وإطلاقه من كل ما يعرقل قيامه بدوره أو يعوق حركته .
ماذا يعني تحرير العقل أكثر من إنقاذه من القيود التي تفرض عليه، وتحول دونه ودون عمله الحر؟ وهو ما يقوم به الدين الحق والدين جاء يحرر العقل من الأثفال، ولكن ورثة الدين قد يحجرون على العقل ويذلونه مما يلي :
ـ بتضييق نطاق عمله وحصره في حفظ المتون.
ـ أو بإهمال تغذيته بما ينفع: فلا نظر ولا بحث علمي رشيد، ولا دراسة لرأي المخالفين، ولا جدل ولا حوار معهم يتحرى الحق.
ـ أو بتقديس السابقين، ومجرد تقديسك عقل غيرك يعني حتماً إلغاء عقلك أنت.
ـ أو بالاحتراز المسرف من الوقوع في خطأ نتيجة الاجتهاد، وهذا يعني أنه لا اجتهاد إذ لا يقع اجتهاد من إنسان دون خطأ أو هناك، وأيضاً لا إبداع حيث لا يمكن أن يتم إبداع دون اجتهاد معرض للصواب والخطأ هذا وكأن ورثة الدين لم يعلموا أن المجتهد إذا كان بحاجة إلى الطمأنينة والأمن فقد زاده الله مع الأمن أجر ما كان باذلاً من جهد وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر )) [رواه مسلم]، وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال : "فليجتهد رأيه ويقول إني أخاف وإني أخاف".
ـ وقد يتحرر العقل ويعي ذاته وما حوله ومع ذلك يبقى هناك نقص في التحرر، فقد يكون متحرراً من التقاليد، لكنه لم يتحرر من الهوى، فيضله هواه عن الإيمان أو عن الاعتراف بالواقع.
ـ التحرر من غرور العقل ذاته وإيقافه عند حدوده ويعين على كمال التحرر: التعليم، تعلم سنن الكون من الكون ومن أهل العلم بالكون، وتعلم الغيب من الرسل والوحي.
على أن التعلم غير الحفظ وغير التقليد ، فالتعلم غذاء للعقل وانفتاح، والحفظ مسخ للعقل، والتقليد طمس للعقل يجعله حيواناً معصوباً يدور في ساقية.
ثم يذكر الإمام أبو شقة نماذج العقل المسلم:
وفي عالم المسلمين اليوم يبرز عقل مقلد خاضع للأشكال الموروثة، سواء كانت محتفظة بمضمونها، أو فرغت من كل مضمون، لكنه ليس حالة وحيدة، أو ليس منفرداً في الساحة.
إن شخصية المسلم المعاصر وإن هزلت وإن تناقضت مع منطق العقل نستطيع أن نميز في داخلها بين ثلاثة نماذج:
1- المسلم المثقف ثقافة مدنية، وهذا مثله الأعلى هو التكيف مع الواقع أياً كانت مواصفاته وليس تغيير الواقع الفاسد ، وقد يكون صاحب موقف سلبي أو حيادي أو تعاطف وجداني ويعيش العصر (يتعاطف مع الثاني دون الثالث).
2- الثاني مذبذب بين الماضي والحاضر أو بين الأول والثالث، يعيش مع الناس ومع وسائل الإعلام العامة، وهو يقترب بموقفه من الأول ، لكن حصيلته التعليمية ووظيفته وممارسته اليومية تقربه من الثالث.
3- والثالث هو المنتسب للجماعات الدينية، ويخضع للجمعيات الدينية الإسلامية وللتراث وتمرد على الهيئات الدينية الرسمية، وثقافته منحازة تماماً (تنحصر في اتجاهات الجماعة التي ينتسب إليها) وتبدو ممارسته للحياة بعيدة عن المجتمع تقوقع داخل بيئة صناعية أشبه بالمعلبات).
وهذا الأخير ـ غالباً ـ لا يتعاطف لا مع الأول ـ فهو جاهلي ـ ولا مع الثاني ـ فهو موظف ـ مرتزق غير ثوري، وعلى ذلك فهو أشد الجميع تزمتاً وبعداً عن أي حوار، وعنده حصانة ضد أي تدخل أو تفاهم، فضلاً عن التعاون، والواجب هو زرع نوع جديد يكون بديلاً صالحاً ـ تدريجياً ـ لهؤلاء، وهو مسلم الغد، ويتميز بسلامة العقل واستقامة عمله، فضلاً عن تقرير مبدأ عمله، ويكون عماداً وأساساً لكل استقامة، سواء استقامة العقيدة، أو استقامة العباد ، أو استقامة الأخلاق.
المشهد الثقافي العربي
رسالتي ـ ماذا يقرأ عرب اليوم، وهل هناك اختلاف في التوجهات في القراءة بين الشعوب العربية والغربية؟
سؤال فضفاض فليس لدي إحصاء دقيق وإن كنت قد حاولت مع بعض الأصدقاء إصدار كتاب يحمل اسم ماذا يقرأ عرب اليوم؟!
بصراحة الواقع الثقافي محكوم في أبنيته الفكرية إلى تقديس نوعيات فكرية مفارقة أي لا وسطية بينها، وأما الغرب فهو عالم له تعقيداته وفلسفاته ونظراته ولا أستطيع أن أقول شيئاً دقيقاً عن ثقافته واهتماماته لكن بالطبع وبالواقع وبالضرورة ثمة اختلاف بين ما يتم نشره في بلاد العرب والغرب.
رسالتي ـ طيب إذا وجدت الخلافات فلماذا يتهافت الناس اليوم على الكتب المترجمة من الغرب وتروج بيننا لمجرد أنها حققت عندهم مبيعات هائلة ككتاب السر لرواندا بايرن الذي نُشر في أمريكا أولاً وحقق مبيعات قياسية ثم ترجم إلى العربية وكان مفتاح رواجه بين العرب تحقيقه لتلك الأرقام، هل في هذا الأمر نوع من التبعية الفكرية؟
يتهافت الناس على الكتب المترجمة لعقدة النقص التي يعاني منها العقل العربي، إنه عقل فقد ثقته بقدرته فبات يبحث عن منجاة عند الآخرين، وكم أشعر بالضيق عندما أجد أن الناشر العربي الذي يترجم ليس له من هم إلا نفخ الجيب.
وبالمناسبة أعتقد أن عبارة من أكثر الكتب مبيعاً في العالم عبارة تستهزئ بالعقل العربي أولاً، وهي عبارة احتيال ثانياً وعبارة عن تسطيح للعقل العربي ثالثاً.
أما ما راج هناك وراج هنا فهو أيضاً رد على من ظن أن العالم كبير، فالعالم قرية كونية وعلينا أن ندرك الفارق اليوم بين عالم الأمس وعالم اليوم.
ثم إن حجم المبيعات إن صح يدل على أن ثورة المعلومات وتدفقها لم يحول دون بيع الكتاب بربحية كبيرة وكميات مؤلفة في بلاد الغرب، وأن ثقافتنا القائمة على التبجيل والتماس شتم الخصم هي السبب في أفول نجمنا وانتكاساتنا.
رسالتي ـ إذن ما العوامل التي أدت إلى بقائنا على هامش الحضارة الفكرية بدلاً من أن نكون مركزها بسبب أننا أمة اقرأ؟
سؤال كبير ومن الممكن أن أقول تتضافر العوامل وهي كثيرة لكني أجد نفسي موافقاً لما يقوله الدكتور عبد الحميد أبو سليمان:
(لا يمكن للحضارة الإسلامية، والأمة الإسلامية، بطبيعة تكوينها العقدي والحضاري، أن تنهض وتنمو وتزدهر، ما لم تتمثل ثوابتها وتلتزمهـا أساساً حقيقياً عملياً لحياتها وحركتها الاجتماعية والحضاريـة. )
وإذا كان هذا الأمرُ شرطاً أساسياً لنهضة الأمة وإحياء الحضارة الإسلاميــة وإعادة بنائها في عالم اليوم بمتغيراته وتحدياته، فإنه لا بد للمفكريـن والعلماء والمثقفين المسلمين، والذين هم العقول والأيدي التي تحرك مفتاح تشغيل حركة الإحياء والتغيير، ألا تنام جفونهم حتى يدركوا السبب في أزمـة تمثُّل الأمـة لهذه الثوابت والإقبال عليها، ووعيها نصاً وروحاً ومنطلقاتٍ عمليةً فاعلةً يمكن الاقتناع بها، والتزامها في حياتهم وحركـة مجتمعاتهم.
وكما هو الحال فإنه لا بد من أن هناك خللاً في الخطاب الإسلامي المعاصر بشأن هذه الثوابت وتمثُّلها في واقع حياة الأفراد وحياة الأمـة؛ لتكون الأمة على ما نرى من حيرةٍ وسلبيةٍ في تمثُّـل كثير من هذه الثوابت، فإذا أدركنا ما أصاب رؤيــة الأمــة الكونيـة من تشوهٍ، وما أصاب منهج معرفتها وفكرها من خللٍ، وما أصاب ثقافتها من تلوثٍ، وما أصاب نفسيتها ووجدانها من تأثير الأساليب التربوية السلطوية والممارسات الاستبدادية؛ أمكننا أن ندرك ما أصاب الخطاب الإسلامـي المعاصر من تشوهاتٍ تفسِّر إلى حدٍّ كبيرٍ حال الأمـة وإفرازاتها المريضة في مختلف جوانب الحياة الاجتماعيــة المعاصرة، وفي أداء نظمها وممارستها الفعلية.
رسالتي ـ كيف يمكن للكاتب العربي جذب القارئ إلى خطابه الخاص مع وجود التشويش من قبل الخطابات الأخرى؟!
المصداقية قوة لا تنهزم وهذه أساس الكتابة الناجحة، لا يهمك أن تتفق مع الكاتب أو تختلف معه بل يهمك مصداقية أفكاره.
إن الجاذب للفكر ليس الصلاح الشخصي وقد نبه المفكر الدكتور أبو بلال عبد الله الحامد إلى هذا المرض وأنه ((من أسباب الخلل في قيمنا الاجتماعية ذلك الربط المحكم بين الصلاح والصواب الذي استقر في العقول والنفوس لأن هذا الربط النفسي أدى إلى حصر طريق التعرف على صواب الأعمال بصلاح الأشخاص لا بصحة الدليل والبرهان)).
إننا نفتقد إلى منهج علمي صارم يحكمنا: مثل رفض التبسيط واحتكار الحقيقة وبانوراما التفكير وسطوة الجزء على الكل والعيش في دهاليز قاتلة من المحاكمات.
رسالتي ـ طيب في جانب آخر ما المعطيات الجديدة التي على المثقف أن يتبعها، وما الذي تبقى له من دوائر التأثير في الساحة العربية؟
أداء الواجب، والساحة فقيرة بحاجة إلى جهد ومجاهدة، ودوائر التأثير كل مثقف يعرفها في بلده المهم أن يكون الفكر بنائياً لا هدمياً.
لا إملاء على أحد ولكني أقول لك: العالم يفسح الطريق أمام من يعرف وجهته فليحدد كل مثقف طريقه الذي يرتضيه والذي يحقق من خلاله رضا الرب وإثبات الذات والفعالية.
رسالتي ـ قبل أن أنتقل معك إلى أسئلتي حول مركز الناقد، أريد منك أن تعطيني مرادفاً لبعض الكلمات:
الدين: خارطة.
الفكر: الشخصية.
الثقافة: تهذيب.
الإبداع: تجديد.
التوازن: الوسطية.
النقد: البناء.
المعرفة: العقل.
التعصب: الجنون.
المرونة: الحكمة.
الموضوعية: الدين.
الذاتية:التشويش.
المنهج: الضوابط.
التطرف: العدوان.
البساطة: الحضور.
الحب:الحياة.
الجمال: روح.
التجارب: الثروة.
الحياة: الفكرة.
المشكلة: الزوال.
الوسطية: إنسانية.
القضية: البحث.
الداعية: البنَّاء.
الرؤية: الوضوح.
الاجتهاد: المسؤولية.
الفقيه: البصر.
العلمانية: الفشل.
العقل: الدين.
ـــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
التعليقات:
46 |
|
|
مرات
القراءة:
4733 |
|
|
تاريخ
النشر: 27/04/2009 |
|
|
|
|
|
|