::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات المشرف

 

 

اُصدُقِ الله يَصْدُقْك ( 2 )

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

صدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
        وهو قدوتنا عليه الصلاة والسلام، قد تعرض خلال مسيرة حياته لأزمات كثيرة، لكنه منذ اللحظة الأولى والشدة العظيمة التي وقع فيها لم يتخلَّ عن المبدأ والمنهج الذي عاهد الله عليه، عندما عُرِض على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المال والجاه والنساء عن طريق عمه أبي طالب الذي قال له: "يا عم! إن كنت تريد مالاً أعطوك المال، وإن كنت تريد الجاه والسيادة جعلوك سيداً فيهم، وإن كنت تريد النساء زوّجوك أجمل نسائهم". فكان ردّ النبي صلى الله عليه وسلم وهو الثابت على منهج الله، الصادق مع الله، كان رده رداً عظيماً ومُفْحِماً لقريش كلها حيث قال لعمه: "والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته". انظر: ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، جـ1، 267. لم يتخلَّ النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته، بل كان ثابتاً وصابراً ومرابطاً على ما أمره الله سبحانه وتعالى، فكانت النتيجة الفرج تلو الفرج من الأزمات التي وقع فيها عليه الصلاة والسلام.
        في يوم الهجرة عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه في الغار، وكفار قريش محدقون بهما، حتى أن سيدنا أبا بكر رضي الله تعالى عنه خشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله! لو أنَّ أحدهم نظر إلى أسفل قدميه لرآنا". فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدر سيدنا أبي بكر، وطمأنه ورَبَتَ على كتفيه، وقال له ما ورد في قوله سبحانه وتعالى:[]...لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[] سورة التوبة (40). فهو عليه الصلاة والسلام في كل الأزمات التي وقع فيها لم يقدّم تنازلات، ولم يتخلَّ عن منهج الله سبحانه وتعالى، ولم يتراجع عن حالة الصدق التي عاشها مع ربه تبارك وتعالى.
^ صدق المسلمين الأوائل وصحابة رسول الله رضي الله عنهم:
        لما جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعضُ أصحابه يشكو إليه تعذيب قريش للمسلمين المستضعفين، وكان عليه الصلاة والسلام مُستنداً إلى جدار الكعبة مستظلاً بظلها، فطلب منه أن ينتصر لهم. أخبره في حق ويقين لا يمارى فيهما أن النصر قادم، وأن العزة والتمكين ستكون لأهل الحق من المسلمين. عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: "أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو لَنَا". فَقَالَ: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ، لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ". أخرجه "أحمد" 5/109(21371) و"البُخَارِي" 4/244(3612) و"أبو داود" 2649 و"النَّسائي" 8/204.
        حينما نسمع كثيراً من الشباب تصيبهم الأزمات ويقعون تحت الإغراءات فلا يصبرون، ولا يثبتون على الحق، فإننا نقول هذا الكلام من باب رفع الهمم، ومن باب التذكير لنا - نحن المؤمنين – جميعاً، فسنتعرّض في حياتنا الدنيا لابتلاءات وامتحانات من الله سبحانه وتعالى، فإن صبرنا على هذه الامتحانات كما صبر من سَبَقَنا من الأنبياء والرسل والصحابة والتابعين والصادقين، فإننا سَنُسَجَّلُ في زمرتهم وديوانهم.
        طريق أهل الحق هو الطريق الذي جعل "صحابة النبي صلى الله عليه وسلم" يتركون مكة، ويتركون فيها دورهم، ومتاعهم، وتجارتهم، وأهليهم فارين بدينهم مهاجرين إلى ربهم، هم تركوها عن حب وإيمان وصدق وإحسان وثبات على العقيدة، وحينما دخلوا المدينة المنورة وجدوا أهلها من الأنصار يستقبلونهم ويفتحون لهم قلوبهم وصدورهم وبيوتهم ويقاسمونهم أموالهم وأرضهم عن حب وإيمان وصدق وإحسان. لذلك وصفهم ربنا سبحانه وتعالى بقوله:[]...يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...[] سورة الحشر (9).
أ- صدق سيدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه:
        طريق أهل الحق هو الطريق الذي جعل "الصديق أبا بكر" رضي الله عنه يحارب المرتدين ومانعي الزكاة، ويقول في ثبات ويقين: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه". راجع: السيرة لابن حبان 1/430 والبداية والنهاية 6/53، الصلابي: أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره 111.
ب- صدق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
        وجعل سيدنا "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه لما قدم إلى الشام أتي ببرذون، فقيل له: اركب يا أمير المؤمنين، فيراك عظماء أهل الأرض، قال: فقال: "وإنكم لهنالك، إنما الأمر من ها هنا". وأشار بيده إلى السماء "خلوا سبيلي". وعن طارق بن شهاب قال: قدم عمر بن الخطاب الشام، فلقيه الجنود، وعليه إزار، وخفان، وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء، قد خلع خفيه، وجعلهما تحت إبطه، قالوا له: يا أمير المؤمنين! الآن تلقاك الجنود، وبطارقة الشام، وأنت على هذه الحال، قال عمر: "إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نلتمس العز من غيره". راجع: مختصر تاريخ دمشق 7/7، و الرياض النضرة في مناقب العشرة 1/179.
        عن أبي حاتم عن العُتْبي قال: بعث إلي عمر بحللٍ، فقسمها فأصاب كل رجل ثوباً، ثم صعد المنبر وعليه حلة (والحلة ثوبان) فقال: أيها الناس! ألا تسمعون؟ فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: لمَ يا أبا عبد الله؟ قال: إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك حلة، فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله، ثم نادى: يا عبد الل! فلم يجبه أحد. فقال: يا عبد الله بن عمر! فقال: لبيك يا أمير المؤمنين! فقال: نشدتك الله، الثوبُ الذي ائتزرتُ به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم. قال سلمان: فقل الآن، نسمع. ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/535.
جـ- صدق آل ياسر رضي الله تعالى عنهم:
        عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث همم أصحابه على الثبات على دين الله وشرعه سبحانه وتعالى، كان يبشرهم دائماً، من ذلك أنه مرّ على "المعذبين من آل ياسر"، وهم في القيد والأغلال يقول لهم مبيناً ثمرة طريق الحق: "صبراً آل ياسر! فإن موعدكم الجنة". تهذيب الكمال. أي إنكم في صدقكم وثباتكم على دينكم ستُكافَؤون بجنة عرضها السماوات والأرض.
ء- صدق سيدنا بلال بن رباح رضي الله تعالى عنه:
        طريق أهل الحق هو الطريق الذي وعاه سيدنا "بلال" رضي الله عنه حينما كانت توضع الصخور العظيمة على صدره وهو تحت حر الشمس، فلا يفتأ لسانه يردد: "أحدٌ أحد". ولسان حاله يقول لمعذبه: عذب ما شئت من الجسد، أما الروح والقلب فلا سلطان لك عليهما؛ لأنهما ملك لله رب العالمين.
هـ- صدق سيدنا عمير بن الحمام رضي الله تعالى عنه:
        طريق أهل الحق هو الطريق الذي جعل المسلمين الأوائل يضحون بالنفس والنفيس من أجل إعلاء راية هذا الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة بدر: (("قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض". قال: يقول "عُمير بن الحمام" الأنصاري: "يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟". قال:"نعم". قال:"بخٍ بخٍ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟". قال: "لا والله يا رسول الله! إلا رجاءة أن أكون من أهلها". قال:"فإنك من أهلها". فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة". قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل)). صحيح مسلم ح1901 (3/1510). هكذا يكون الثبات والصدق مع الله سبحانه وتعالى، أولئك قوم صَدَقوا الله ما عاهدوه عليه، فصَدَقَهم وأكرمهم بالجنة والنعيم المقيم.
و- صدق سيدنا سعد بن الربيع رضي الله تعالى عنه:
        أخرج الحاكم بسنده عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (("بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب "سعد بن الربيع"، وقال لي":"إن رأيته، فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟". قال: "فجعلت أطوف بين القتلى، فأصبته، وهو في آخر رمق، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك خبرني كيف تجدك؟". قال: "على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله! أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عُذْرَ لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شَفْرٌ يطرف". قال: "وفاضت نفسه رحمه الله")). المستدرك للحاكم 3/201. نلاحظ صدق هذا الرجل مع الله سبحانه وتعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، فصدقه الله تعالى وأكرمه بجنة عرضها السماوات والأرض.
ز- صدق سيدنا عمرو بن الجموح رضي الله تعالى عنه:
        كان سيدنا "عمرو بن الجموح" رضي الله عنه أعرج شديد العرج، قد جاوز الستين من عمره، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد، كل واحد منهم بطل، شجاع، مقاتل وفارس. وكانوا يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، وهم خلاد، ومعوذ، ومعاذ، وأبو أيمن، فلما كان يوم أُحد أرادوا حبس أبيهم عن الجهاد والقتال، وقالوا: إن الله عز وجل قد أعذرك. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه وللخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعَرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمّا أنت فقد عذرك الله تعالى فلا جهاد عليك". وقال لبنيه: "ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة". فخرج وهو يقول مستقبل القبلة: اللهم لا تردني إلى أهلي خائبًا، فقُتِل شهيدًا. المسند (5/299)، السيرة النبوية لابن هشام (3/101).
        ح- صدق سيدنا سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه:
        طريق أهل الحق هو الطريق الذي جعل سيدنا "سلمان الفارسي" رضي الله عنه يترك وطنه وما فيه من عز وسلطان ليبحث عن الحق. يقول سلمان رضي الله عنه عن نفسه: "كنت رجلاً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ، وكان أبي دُهْقانها (رئيسها)، وكنت من أحب عباد الله إليه، وقد اجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار (ملازمها) الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
        وكان لأبي ضَيْعَة (أرض)، أرسلني إليها يوماً فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعتهم يصلُّون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي: هذا خيرٌ من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم (تركتهم) حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري من يبحث عني، وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام. وقلت لأبي حين عُدت إليه: إني مررت على قوم يُصلّون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا، فحاورني وحاورته، ثم جعل في رجلي حديداً وحبسني.
        وأرسلتُ إلى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام أن يخبروني قبل عودتهم إليها؛ لأرحل معهم، وقد فعلوا فحطمت الحديد، وخرجت، وانطلقت معهم إلى الشام، وهناك سألت عن عالمهم فقيل لي: هو الأسقف (رئيس من رؤساء النصارى) صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم وأصلي وأتعلم، وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس؛ ليوزعها على الفقراء، ولكنه كان يكتنزها لنفسه.
        فلما مات جاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينهم خيراً منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة وزهداً، في الدنيا، ودأباً على العبادة، فأحببته حبَّاً ما علمت أنني أحببت أحداً مثله قبله، فلما حضره قدره (الموت) قلت له: إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، فبم تأمرني؟ وإلى مَنْ توصي بي؟ قال: أي بني! ما أعرف من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلاً بالموصل.
        فلما توفي أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته فدلني على عابد في نصيبين، فأتيته وأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنيمات، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني! ما أعرف أحداً على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك (أتى عليك) زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفاً، يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، فإن استطعت أن تخلص (تذهب) إليه فافعل، وإن له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته.
        ومرَّ بي ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم، واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني وباعوني إلى رجل من يهود، وأقمت عنده حتى قدم عليه يوماً رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وُصِفَتْ لي.
        وأقمت معه أعمل له في نخله، وإني لفي رأس نخلة يوماً، وصاحبي جالس تحتها، إذ أقبل رجل من بني عمه فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة (الأوس والخزرج)، إنهم ليقاصفون (يجتمعون) على رجل بقباء قادم من مكة يزعمون أنه نبي. فوالله ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العُرَوَاءُ (ريح باردة)، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي، ثم نزلت سريعاً أقول ما هذا الخبر؟ فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك. فأقبلت على عملي، ولما أمسيت جمعت ما كان عندي، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُباء، فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذُكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به، ثم وضعته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا باسم الله، وأمسك هو فلم يبسط إليه يداً، فقلت في نفسي: هذه والله واحدة، إنه لا يأكل الصدقة، ثم رجعت، وعدت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الغداة أحمل طعاماً، وقلت له عليه السلام: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يده، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله، وأكل معهم، قلت لنفسي: هذه والله الثانية، إنه يأكل الهدية، ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتان (الشملة: كساء من الصوف) مؤتزراً بواحدة، ومرتدياً الأخرى، فسلّمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فإذا العلامة بين كتفيه خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي، ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته كما أحدثكم الآن، ثم أسلمت، وحال الرقُّ بيني وبين شهود (حضور) بدر وأحد، وفي ذات يوم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كاتب سيدك حتى يعتقك)) فكاتبته، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة كي يعاونوني وحرر الله رقبتي، وعشت حُرّاً مسلماً، وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الخندق والمشاهد كلها". [أحمد والطبراني].
^ وآخرون ممن صدقوا مع الله تعالى:
        طريق أهل الحق هو الطريق الذي جعل سلسلة العزة وشجرة الكرامة تمتد جذورها في هذه الأمة جيلاً بعد جيل، لما رجعت رسل المقوقس إليه والتي كان قد أرسلها لمفاوضة المسلمين قال لهم: كيف رأيتموهم؟ قالوا: "رأينا قوماً الموتُ أحبُّ إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرِّفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرَف رفيعُهم من وضيعِهم، ولا السيد فيهم من العبد، إذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم في الماء، ويخشعون في صلاتهم". فقال المقوقس: "والذي يُحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد". راجع: النجوم الزاهرة 1/23، ابن عبد الحكم: فتوح مصر 75، المقريزي: المواعظ والاعتبار 1/365.
        طريق أهل الحق هو الطريق الذي جعل "سعيد بن جبير" يواجه صلف الحجاج، ويقاوم الطغيان، وجعل "أحمد بن حنبل" يثبت في فتنة خلق القرآن، و"ابن تيمية" لا يخشى السجن ولا السجان، وسلطان العلماء "العز بن عبد السلام" يقول: لقد صار السلطان أمامي كالقط الجبان.
أمامَكَ فانظرْ أيّ نَهْجَيكَ تَنْهَجٌ      طريقان شتّى: مستقيمٌ وأعوجُ
قال أحدهم:
أمَّاه لا تَجْـزَعي فالحـافظُ اللهُ      إنَّا سـلكْنا طريقاً قد خَبِـرناهُ
على حـفافَيهِ يا أمَّـاه مرقَدُنا     ومـِن جماجِمِـنا تُرسـو زَواياهُ
أمَّاه هذا طريقُ الحقِّ فابتهـجي     بمسـلمٍ باع للـرحمن دنيـاهُ
وقال آخر:
سيروا كما ساروا لِتَجْنوْا ما جَنَوا      لا يحصدُ الحَبَّ سـوى الزُّرَّاعِ
وتَيَقَّظوا فالسـيلُ قد بلغ الزُّبى       يا أيها النَّـومى على الأطماعِ
واسترجِعوا ما فات من أمجادكمْ       ما دُمتمُ في مُهـلةِ اسـترجاعِ
يا خاطِبَ العلـياءِ إنَّ صَدَاقَها       صَعْبُ المَنالِ على قصيرِ الباعِ
^ دعاء:
        اللهم! اجعلنا من أهل الحق الذين يسلكون سبيلك، ويرفعون رايتك، وارض عنهم، واجمعنا بهم في الآخرة تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وأكرمنا وإياهم بالمرور على حوض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسقنا من يديه الشريفتين شَربة هنيئة مَريئة طيبة لا نظمأ بعدها أبداً، يا رب العالمين! اللهم! اكتبنا عندك من الصادقين الذين صدقوا الله ما عاهدوه. اللهم! إنا نسألك الصدق في القول والعمل،

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 7151

 تاريخ النشر: 01/10/2011

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1370

: - عدد زوار اليوم

7398215

: - عدد الزوار الكلي
[ 64 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan