::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مساحة حرة

 

 

آية تُلَخّص الفِكر الحضاري الإسلامي..

بقلم : منيب مقبل  

 

قال الله تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)).

 

قال عليه الصلاة والسلام "أعطيتُ جوامع الكلم"[1] فإذا كان الكلام النبوي بهذه المثابة من اكتناز المعاني الجليلة في المباني القليلة فكلام الله تعالى أجدر أن يكون حقيقاً بهذا الوصف [2]، إذ الفرق بين كلامه وكلام المخلوق كالفرق بين ذاته سبحانه وذات المخلوق، وقد تدبّرتُ في آية الحديد هذه فإذا هي تجمع في طواياها مختصراً شريفاً لحقيقة الفِكر الإسلامي في بعده الحضاري والثقافي والعملي وتقدمه في أبهى حلّة، فكانت جديرة أن تخص بمقال لا على سبيل الإحاطة بل على سبيل الإجمال إذ القرآن بحر لا ساحلَ له, لا تنقضي عجائبه ولا يَخلَق عن كثرة الترديد، وأيما سورة في القرآن كالقصر المنيف إذا نظرت إليه جملةً أَسَركْ، وإذا رحت تجول في آحاد غرفِه أخذت لبّك بين جلال المنظر وجماله، فذلك قوله: ((كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير)). ولله المثل الأعلى.

- أول ملحظ أن الله تعالى يؤكد باللام الموطئة للقسم الداخلة على "قد" التحقيقية قضيةَ أن هذا الدين مبني على براهين سماها هنا ((بِالْبَيِّنَاتِ)) فهو دين قوته مودعةٌ فيه، تبقى جذوته حية وإن مرض المنتسبون إليه في حين، فمن معين الكتاب والسنة تفجّر أنها الحقائق التي تجرف قدّامها كل شبهة للإيضاع فيه، بحيث لا يملك المنصف إزاءها إلا إعلان استسلامه ((بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)), ولولا أن قوته ذاتية لكان ما يكال له من مؤامرات جهنمية كفيلاً أن يكون المسلمون الآن كالديناصورات في عداد المنقرِضات, ولكان ما يناله من تشويه منظم وحصار منهجي ومحاولات دؤوبة لتجفيف منابعه أو تبخير آثاره من عروق عامة المسلمين سبباً كافياً جداً لاجتثاثه من الوجود في الحساب العقلي لطبائع الأشياء, - وهو فوق هذا دين ينسجم في تعليماته مع حركة الكون فالله تعالى أقام صرح السماوات والأرض على العدل كما أقام منهجه الرباني على القسط ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ)) قال الحافظ ابن كثير: ["والميزان" وهو العدل قاله مجاهد وقتادة وغيرهما وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة، كما قال تعالى: ((أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)) وقال تعالى: ((فطرة الله التي فطر الناس عليها))].اهـ

وهذا التناغم مكرور في مواضع كقوله سبحانه: ((والسماء رفعها ووضع الميزان)), وتدبر كيف عطف الميزان على الكتاب وإن كان العدل من مقتضى العمل بالكتاب إمعاناً في بيان أهم ركيزة في ديمومة الحضارات, كأن الناس إن لم تقم بالقسط رجّحت كفّة عدوها الذي ينازعها فطاشت من كفة الميزان الأخرى إذا كان هذا العدو مقيماً للقسط في رعاياه كما أن في إفراده بالذكر تضميناً لقيام آيات الله المنظورة على الميزان أيضا سواء بسواء كالآيات المسطورة ((وأنبتنا فيها من كل شيء موزون))، وفي الجمع بين الكتاب والميزان ملمح آخر مهم فما جاء به الرسول من ربه يدور رحاه بين الأخبار الصادقة ويدل عليها لفظ "الكتاب" وبين الأوامر الشرعية العادلة ويدل عليها "الميزان" وهو نظير قوله تعالى: ((وتمّت كلمة ربك صدقًا وعدلاً)) أي صدقاً في الأخبار عدلاً في الأحكام؛ وهو لذلك يدعو للجهاد للحفاظ على منهج العدل الرباني، ((فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)) فإن الله تعالى حين أورث الأمة المحمدية الكتاب اقتضت حكمته أن يجعل المنهاج مسوّراً بسياج يحفظ كيانه ويرسّخ أركانه لا أنه مجرد نظريات باردة لا روحَ فيها ولا حراك بل المنهج ذاته فواح بما يجذب أصحاب الفطر السليمة إليه ولو من غير دعوة كانجذاب النحل إلى الزهر وأما أصحاب الفطر المنكوسة فلابد من علاجهم بالبأس الشديد حتى يكون العدل هو سيد الموقف وتتحطم حينئذ كل الطواغيت الحائلة والعوائق الماثلة دون بلوغ الرسالة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمّية رضي الله عنه مستنبطاً قاعدة جليلة من الآية :"قوام هذا الدين كتاب يهدي وسيف ينصر وكفى بربك هادياً ونصيراً".

- وحين يسمو المنهج الرباني بالعبد نحو المثل العليا فهو لا يهمل في أثناء ذلك الجانب المادي ولا يغلو في جانب الروح على حسابه، ولا يهبط به لدركات الغلو في الذات على حساب تقديس الله عز وجل، كما لا يطغى في اعتبار الآخرة على حساب الدنيا بحيث يلغيها كما فعلت الكنيسة في "العصور الوسطى" بل يجعل الأولى مزرعة للآخرة دون افتعال معركة بين المعسكرين ((وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)).

- وهو دين يحيي في شعور أتباعه الموازنة بين عالم الشهادة وعالم الغيب باتساق تام فلا تنافر ولا تناكر  ((وَلِيَعْلَمَ ... بِالْغَيْبِ))، وحينئذ تتحقق الرقابة الذاتية وتستقيم الأخلاق جملة خلافاً للـ"حضارة" الغربية الحديثة التي ارتكست في حمأة عفنة, يترفع عنها عالم الحيوان حيث أفرزت ثورتها على الدين سُفولاً بلغ من الغواية أن يقول: الغاية تسوّغ الوسيلة.. وعلى ذات الميكافيلية ما يزال الغرب إلى يومك هذا.

- ثم إن النصر في مرتكزات الحضارة قائم على سنن ربانية لا محاباة فيها حتى لأشرف نسب، فترى الله يدعو للحرث في الأرض واتخاذ السبب ((مَنْ يَنْصُرُهُ)) وفي التنويه بذكر الحديد إشارة إلى الأخذ بأسباب القوة المادية, وعلى استخراجه من الأرض وتصنيعه تقوم لبنات العمارة الحسّية.

- وهذا الدين قبل ذلك قائم على أوتاد العلم ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ)) فليس هو كأماني أهل الكتاب ولا كأساطير الإغريق, بل لقد كان الوضع الطبعي بالنظر إلى تعلق النتائج بالآثار أن ما حدث من ثورة صناعية وفورة تقنية عند الغرب الكافر هو من نصيب أهل الإسلام أصالة، ولكن الحاصل أن البذرة التي حرثها المسلمون تعهدها الغرب الكافر بالسقاية على حين سبات هؤلاء المسلمين, وتقدم أن الله لا يحابي في سنته أحداً كائناً ما كان.

- وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يظهر التناسق مع الترتيب الموضوعي لما تضمنته الآية، حيث لبث في مكة ينشر دعوته بالبينات ويعلّم التوحيد وأصول الشرائع، ثم حين ترسّخ هذا يسّر الله للأمة مُهاجَرًا وأذن لهم بالجهاد بالسنان (الحديد) بعدما وطّد الحقائق بالجهاد باللسان (البينات- الكتاب).

- وقوله ((أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا)) يعني أن ثمّ وحياً مهيمناً على سلوك الأمة التي تريد أن تحيى سويّة دون تخبط لأن القوانين الأرضية (مهما كانت العبقرية التي تفتقت عنها أصحابها) تحمل معها تواريخ انتهائها أقر بذلك واضعوها أم لا، مع كونها مفسدة لأديم الأرض ولابد, أما القوانين العلوية فهي الميزان الذي لا يقربه التطفيف (فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج اللّه وشريعته، لا يهتدي الناس إلى العدل، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء!) [3].. وبقدر ما تكون الحيدة عن المنهج الرباني عند أدعيائه بقدر ما يعجلون بزوالهم, فقارن إن شئت بين دعوى فوكوياما في نهاية التاريخ، والتي اضطر أخيراً أن يعترف ببطلانها كما في كتابه "مستقبلنا بعد الرحلة البشرية" بعدما أسقطت الوقائع على الأرض ماء وجهه هو وأمثاله من المستكبرين. وبين قول الله تعالى: ((أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال))؟! فلم يكن فرنسيس فوكوياما أول كافر به بالتبجح بمثل هذه الدعوى كما ترى, بل هو مسبوق بكل طواغيت الكُفر (الذي يسمونه الفِكر) عبر الزمان عند كل منعطف يعلو فيه هؤلاء في الأرض ومن آخرهم مثلا الفيلسوف المعروف "هيجل", متمثلاً نموذج الدولة البروسية بعد الثورة الفرنسية، ومن هنا تدرك السر في عمق جذور الحضارة الإسلامية الضاربة في أعماق التاريخ رغم ما تعرضت له من هزات عنيفة على مر العصور, فقوله: ((أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا)) يدلك على أن جوهر هذه الحضارة الإسلامية يرجع تاريخه إلى آدم عليه السلام، فالأنبياء إخوة لعلّات, أمهاتهم شتى وأبوهم واحد كما قال عليه الصلاة والسلام [4]، وقد حكى الله ملخّص هذا النسب العريق لوحدة الرسالات فقال: ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)).

- ويجدر بالذكر أن هذه الآية نفسها تمثل وجهًا من وجوه ما يسمى حديثاً بـ [الإعجاز العلمي] فكذلك هي حضارة الإسلام، ومنها تعلم الغرب البحث العلمي القائم على التجربة والحساب والملاحظة والنظر وإعمال الفكر وصولاً لثمار عمليّة كما في حضارة الأندلس مثلاً، فترتيب السورة في العد هو(57)، وهذا يمثل الوزن الذري للحديد كما في الجدول الدوري للعناصر في الطبيعة وهو مما قد يرجح أن ترتيب السور توقيفي كما أن قوله ((وأنزلنا الحديد)) هو على ظاهره مما ثبت يقيناً في القرن الماضي من أن الحديد لم يُخلق في الأرض ابتداءً بل زُرع فيها زرعاً عبر ارتطام نيازك هائلة قبل آلاف آلاف السنين، كما أن ترتيب الآية التي فيها ذكر الحديد مع حساب البسملة - وهي آية مستقلة - هو نفس العدد الذري لهذا العنصر :(4).

- وأما ختام الآية ((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) فهو ومضة في ذهن السالك على الدرب - فردًا كان أو أمة- تلمع بالذكرى وهي تقول: إنك وإن اتخذت الأسباب وعملت بمقتضاها فإنما يتحقق النصر لأجل استمداد القوة من الله تعالى واستنزال العزة منه, فكأنما هذه الفاصلة القرآنية كابحٌ للجماعة من أن تغتر إذا هي ارتقت الذروة.

 وإن من أعظم أسباب سقوط الدول: منازعة الله عز وجل في ردائه وإزاره، غير أن سننه سبحانه في الكون تتفاعل ولا تتعارض، ومهما بلغ من جبروت دولة عاتية فإن الله لا يقصمها وإن كانت مهترئة في مَقاتلها من الداخل، حتى تقف الأمة الإسلامية على قدميها وقوفاً يكفي لتكسعها أو تلهزها.. وحينها تسقط ((يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)).

المصدر: شبكة القلم الفكرية

ـــــــــــــــــــــــ

الحواشي:

(1) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2) جاء في بعض الروايات "بعثت بجوامع الكلم" قال الهروي: يعني به القرآن.

(3) من كلام الأديب والمفكر الحاذق الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى (في ظلال القرآن) سورة الحديد.

(4) أخرجه الإمام أحمد وأصله عند الشيخين من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(5) العدد الذري لأي عنصر هو عدد البروتونات أو الإلكترونات في الذرة المستقرة واجتماع هذا وهذا مما يستأنس به لا غير.

 


 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3062

 تاريخ النشر: 03/09/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1541

: - عدد زوار اليوم

7448863

: - عدد الزوار الكلي
[ 40 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan