من معاني الهجــــرة
بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وافتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نتعلمه حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
سنتناول معنى كلمة الهجرة ومفهومها، وكيف كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما رافقها من أحداثٍ لا نزال نستنبط منها دروساً عظيمة في حياتنا، ونطبّق هذه الدروس على واقعنا، فيعود الخير والبركة وكأنما يتكرر حدث الهجرة من جديد.
^ معنى "الهجرة" لغةً واصطلاحاً:
أ- لغةً:
الهجرة في لغة العرب هي: ترك الشيء إلى شيء آخر، أو الانتقال من حالة إلى حالة أخرى، أو الانتقال من مكان إلى آخر.
ب- اصطلاحاً:
للهجرة في معناها الاصطلاحي مجموعة من المعاني:
1- هجرة الذنوب والمعاصي:
قال الله سبحانه وتعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:[]وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ[] سورة المدثر (5).
ويقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". صحيح البخاري. فالمهاجر هو من ترك المعاصي والذنوب، وتخلى عن الآثام.
2- هجرة الكفار:
قال الله سبحانه وتعالى:[]...وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً[] سورة المزمل (10). قال المفسرون: "الهجر الجميل هو الذي لا أذى معه، والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه". فالإنسان الصابر لا يشتكي ولا يُعرِب عن ألمه من هذا الصبر، إنما يتعبّد الله سبحانه وتعالى بصبره. والهجر الجميل أن تهجر من تريد هجراً مباحاً دون أن تسيء إليه أو تتعرض له بأذى.
3- تغييـر المكان:
كذلك من مفاهيم ومدلولات كلمة الهجرة تغيير المكان؛ لقوله سبحانه وتعالى:[]وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً...[] سورة النساء (100). هذه الهجرة بمفهومها الكبير، أن الإنسان إن ضاقت عليه السبل في أرض ما فعليه أن يهاجر وتتحول إلى مكان آخر حتى تجد فرجة وسعة من هذا اليأس والضيق.
^ الهجرة دأب الأنبياء:
والهجرة هي دأب الأنبياء؛ فسيدنا "إبراهيم" عليه السلام هاجر من العراق إلى الشام، ومن الشام إلى فلسطين، ومن فلسطين إلى مكة المكرمة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى:[]وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ[] سورة الصافات (99). وكذلك في الآية الكريمة:[]...وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[] سورة العنكبوت (26).
كذلك سيدنا "موسى" عليه الصلاة والسلام هاجر من مصر إلى فلسطين. قال الله تعالى:[]وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ[1][1] إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ[] سورة القصص (20).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أول وآخر من هاجر، إنما سبقه عليه الصلاة والسلام في الهجرة أنبياء، وجاء بعده صحابة وتابعون ومتّبعون له صلى الله عليه وسلم، إذا ضاقت بهم الأرض يخرجون إلى أرض أخرى ذات سعة فِراراً بدينهم. ليس بالمفهوم الذي يفهمه الناس وهو أنهم فرّوا بأنفسهم طلباً للراحة والرفاهية وسعة العيش، إنما مفهوم الهجرة أن تهاجر في سبيل الله تعالى لتحفظ دينك.
^ السبب الحقيقي والمسوّغ الذي يمكن المهاجَرة لأجله:
نقف قليلاً عند أولك الناس الذين يهاجرون من أجل طلب المال، أو من أجل الدراسة والعلم، فإذا حصّلوا المال الوفير، وحصّلوا العلم المطلوب ونالوا الشهادات العليا، فما سبب بقائهم في بلاد غير المسلمين؟! لماذا يصرّون على بقائهم هناك وأوطانهم بحاجة لعقولهم وأدمغتهم وأفكارهم وخبراتهم وطاقاتهم؟! والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أهم أهدافه إلى المدينة أن يجمّع طاقات المسلمين كلَّها في المدينة المنورة؛ فالذين هاجروا إلى الحبشة عادوا منها إلى مكة، ثم من مكة إلى المدينة. والذين كانوا في مكة المكرمة هاجروا إلى المدينة، فتجمّعت قوى المهاجرين مع قوى الأنصار، فأصبح الإسلام كتلة كبيرة وقوة عظيمة.
هذا درس كبير لأولئك الإخوة الذين يهاجرون إلى بلاد أوربة وأمريكة لينالوا علماً ويحصّلوا شهادات، أو ليعملوا في مجال الحياة الدنيا، فإذا حصّلوا القدر الأوفى مما ذهبوا لأجله فعليهم العودة إلى أوطانهم؛ لتُستَثمر هذه الطاقات العلمية والفكرية والاقتصادية أيضاً في سبيل النهوض بهذا المجتمع كما نهض النبي صلى الله عليه وسلم بمجتمع المدينة المنورة، فجمّع القوى كلها، ووحّد الكلمة، وترابطت الصفوف، فكانت أول عاصمة إسلامية في الدنيا أهّلت وهيّأت لانتشار الدعوة الإسلامية وانتقالها إلى الفضاء الواسع والأرض الرحبة.
^ لماذا هاجر النبي صلى الله عيه وسلم من مكة المكرمة؟
أيها الإخوة القراء! لم يكن من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بُدٌّ بعد أن ضاقت الأرض بما رَحُبَتْ عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضي الله عنهم؛ لأن البيئة في مكة المكرمة لم تعد صالحة لإتمام هذه الرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان هناك مخطّط في أعماق نفس النبي صلى الله عليه وسلم أن يحصل على بقعة أرض بديلة عن مكة ليقيم ويؤسس فيها مجتمعاً إسلامياً ومؤسسة إسلامية تنطلق منها الدعوة إلى الآفاق، والمشكلة التي كانت تواجه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة هي صناديد قريش الذين كانوا يحملون قلوباً قاسية لا تتفاعل مع هذه الدعوة، مع صبر النبي عليه الصلاة والسلام وتحمله أذاهم، إلا أنه كان يواجه هذه العقبة الكؤود، فكان لا بد من الانتقال إلى أرض جديدة. وهذا فيما يسمى اليوم بالمصطلحات الجديدة "استراتيجية الهجرة"، أي النظرة البعيدة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام ينظر نظرة بعيدة المدى إلى أفق الدعوة الإسلامية؛ أين ستنتقل هذه الدعوة؟ وماذا ستَحمِل هذه الرسالة؟ وإلى أي بقاع الأرض ستُحمَل؟ فكان لا بد من تقييم البيئة المحيطة بالنبي صلى الله عليه وسلم والتفكير بأرض بديلة، مع استعراض كل الموارد والطاقات والثمرات التي ينبغي أن يُستفاد منها في الهجرة إلى مكة المكرمة.
^ مواقف متميزة من بعض من هاجروا قبل النبي عليه الصلاة والسلام:
بعد أن أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة، وبدا أصحابه عليه الصلاة والسلام يهاجرون جماعات وفُرادى، لم يبقَ في مكة المكرمة إلا رسول الله عليه وسلم وقلة من أصحابه. وكان من أميز من هاجر من مكة إلى المدينة سيدنا "عمر بن الخطاب" رضي الله تعالى عنه الذي كانت هجرته هجرة عملية، كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم هاجروا سرّاً خشيةَ أن يُصابوا بأذى؛ لأن أهل مكة لم يكونوا يريدون أن تفرغ مكة من طاقات الشباب الفاعلة فيها، لذلك كانوا يقفون بالمرصاد لكل من يريد أن يفكر بالهجرة، فلما جاء دور سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه كما يقول سيدنا علي رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه في رواية هجرته: "ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة تَقَلَّدَ سيفه وتَنَكَّبَ قوس، وأخرج سهماً من كنانته وجعلها في يده، وجعل عصاه على خصره، ومضى قِبَلَ الكعبة المشرفة والملأ من قريش بفِنائها[2][2]، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلّى ركعتين، ثم وقف على الحِلق[3][3] واحدةً واحدة، فقال لهم مُخاطِباً: شاهت[4][4]الوجوه لا يُرغِم[5][5]الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو يُيَتَّم ولده، أو تُرمَّل زوجته فلْيَلْقَني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحدٌ إلا قومٌ من المستضعفين علّمهم ما أرشدهم إليه". هذا خطاب صريح وجريء في مواجهة صناديد مكة. ثمّ مضى متّجهاً نحو المدينة المنورة، وكان معه نحو عشرين رجلاً، منهم زيد بن الخطاب (أخو سيدنا عمر رضي الله عنه)، وهو أكبر منه سنّاً، وأسلم قبله، وشهدَ بدراً والمشاهد، واسُشهِد في موقعة اليمامة، وكانت راية المسلمين بيده، وحزن عليه سيدنا عمر حزناً شديدا، وكان يقول: "سَبَقَني إلى الحُسْنَيَين؛ أسلم قبلي، واستُشهِد قبلي". فسيدنا عمر رضي الله عنه كان يفكّر بالشهادة في سبيل الله، وكانت حلماً له، لذلك لمّا بشّره بها النبي صلى الله عليه وسلم كان على جبل أُحُد، حينما اهتزّ الجبل وكزه النبي صلى الله عليه وسلم بعصاه، وقال: "اُثبت أحد، فإنما عليك نبيٌّ وصدّيقٌ وشهيدان". صحيح البخاري. والشهيدان هما سيدنا عمر وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنهما.
هذا نموذج من الهجرة الجريئة، الهجرة في سبيل الله تعالى دون خوفٍ أو وجل، وفي هذا ردٌّ على من يقول: إن المسلمين هاجروا فراراً بأنفسهم. والدليل أن سيدنا عمر رضي الله عنه تحدّى أهلَ مكة، وهاجر علناً، معلناً ولاءه وانتماءه إلى الإسلام وإلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أميز من هاجر من مكة إلى المدينة سيدنا "صهيب بن سنان الرومي" رضي الله تعالى عنه، فلما أراد الهجرة قال له كفّار قريش: "أتيتنا صعلوكاً[6][6] حقيراً فكَثُرَ مالُك، وبلغتَ الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟! والله لا يكون هذا!". فقال لهم سيدنا صهيب - وكان يتكلم معهم بذكاء ويفهم حقيقة الهجرة في سبيل الله تعالى - : "أرأيتم إن جعلتُ لكم مالي أتخلّون سبيلي؟". قالوا: "نعم". فقال: "فإني جعلتُ لكم مالي كلَّه". لقد أتاهم من نقطة ضعفهم؛ فهم كانوا ممن يحب المال حباً جَمَّا. فبلغ هذا الكلامُ سيدَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ربح صهيب! ربح صهيب! ". صحيح ابن حبان. "يا أبا يحيى! ربح البيع". مجمع الزوائد. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هجرة سيدنا صهيب الرومي رضي الله عنه بأنه باع نفسه لله. فقال سيدنا صهيب رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله! والله ما سبقني إليك أحد[7][7]، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام".
^ تأجيل هجرة أبي بكر الصديق ليصحب النبي عليه الصلاة والسلام:
هكذا هاجر المسلمون جماعاتٍ وفُرادى، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بعدما بقي قلّةٌ من إخوانه وأصحابه وهو ينتظر أن يُؤْذَنَ له بالهجرة. وسيدنا "أبو بكر" وسيدنا "علي" رضي الله تعالى عنهما هما من أميز من بقي مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، حتى أن سيدنا أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه كان قد همَّ بالهجرة إلى المدينة وهيَّأ نفسه لذلك، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "لا تعجلْ، لعلّ الله يجعل لك صاحباً". المعجم الكبير. ففهم سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يعني بالصاحب نفسَه. "وتجهّز أبو بكر قِبَلَ المدينة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يُؤذَنَ لي". صحيح البخاري. فقال رضي الله عنه: "وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟". قال عليه الصلاة والسلام:"نعم". فحبس أبو بكر رضي الله عنه نفسَه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَصْحَبَهُ، وعَلَفَ راحلتين كانتا عنده ورقَ السَّمُر[8][8] أربعةَ أشهر استعداداً للهجرة إلى المدينة.
^ مؤامرة قريش لمّا علمت باستعداده عليه الصلاة والسلام للهجرة:
علمت قريش أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يتهيَّأ للهجرة إلى المدينة هو ومن بقي من أصحابه، فبدؤوا يخطّطون ويتآمرون للتّخلص من النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يهاجر، لذلك عقدوا مؤتمراً فيما يسمّى "دار الندوى" فاجتمع كبار وجهائهم من بني عبد شمس، وبني مخزوم، وبني عبد الدار، وبني أسد، وهذه عيون قبائل قريش.
في هذه الأثناء دخل عليهم إبليس في صورة شيخ نجديّ عليه كساء غليظ. فلما رأوه واقفاً على الباب قالوا: من الشيخ؟ قال: أنا شيخٌ من نجد، سمع بالذي تواعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يحرمكم منه رأياً أو نُصحاً. فقالوا: أجل. فادخل. فدخل إبليس وشارك معهم في تلك المؤامرة. وكانت هذه المؤامرة مجموعة أفكار ومخططات للإيقاع بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أ- الرأي الأول (الحبس حتى الموت):
أول ما بدؤوا بالتفكير به أن بعضهم أشار قائلاً: "إن هذا الرجل قد كان من أمره ما رأيتم، فإنّا والله ما نأمَنُه على الوثوب علينا فيمن قد اتّبعه من غيرنا، وإنا لَنَرى أن تحبسوه في الحديد، وتُغلِقوا عليه باباً، ثمّ تتربّصوا به أن يصيبه ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله[9][9] حتّى يأتيَه الموت". هنا تدخّل إبليس (الشيخ النجدي) فقال: "لا لا! لا تقعوا بهذا الخطأ، والله ما هذا لكم برأي، لئن حبستموه كما تقولون لَيَخْرُجَنَّ أمره من وراء الباب إلى أصحابه". لقد خاف أن يُحبَس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تخرج دعوته من وراء الباب.
ب- الرأي الثاني (الإخراج والنفي):
ثم تشاوروا في رأي جديد، فقال بعضهم: "نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا خرج فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع". فقال لهم الشيخ النجدي (إبليس): "والله ما هذا لكم برأي! ألم تروا حُسنَ حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال؟! فوالله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن ينزل على حيٍّ من العرب فيتّبعوه حتى يغلبَكم، ثم ينتزعَ الأمر من أيديكم". حتى هذا الحل خاف منه إبليس، فقد خشي أن يؤثّر النبي صلى الله عليه وسلم في أي قبيلة ينزل فيها؛ لِما ملّكه الله سبحانه وتعالى من حسن الحديث الذي هو كناية عن الوحي، كناية عن القرآن الكريم والحديث الشريف الذي يحدّث به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
جـ- الرأي الثالث والذي تمّ اعتماده (القتل):
هنا تدخّل أبو جهل وقال: "إن لي رأياً عظيماً". قالوا: "وما هو يا أبا الحكم"؟. قال: "أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شابّاً، جلداً، نسيباً، وسيطاً فينا، ثم نعطي كلَّ فتىً منهم سيفاً صارماً، ثمّ يعمدوا إليه، فيضربوه ضربةَ رجلٍ واحد، فيقتلوه ونستريح منه، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل، فلم تقدر قبيلة بني عبد مناف على أن تحارب القبائل كلَّها، فترضى بالدية فنعطيها لها". فاعتُمِدَ هذا المخططُ الرهيب أخيراً بمباركة الشيخ النجديّ الذي قال: "القول ما قال هذا الرجل، هذا الرأي ولا رأيَ غيره". فتفرّق الناس وقد اجتمعوا على هذا القرار، وأعجبهم رأي أبي جهل بن هشام.
^ الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة:
في هذه اللحظات كان الله سبحانه وتعالى قد أَذِن للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة، ونزل قوله عز وجل في هذا الأمر:[]وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[] سورة الأنفال (30). لقد فكّروا وقرّروا وقدّروا أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم أو ينفوه أو يحبسوه، لكن الله سبحانه وتعالى أذن له بالهجرة، واختار له طريقاً أحسنَ مما فكّروا فيه بكثير. هنا سارع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأخبره بالهجرة.
تقول السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: "فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في وقت الظهيرة إذ قال قائلٌ لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها[10][10]". فلما رآه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه قال له: فداء لك أبي وأمي يا رسول الله! والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ جلل. فجاء صلى الله عليه وسلم فاستأذن في بيت أبي بكر فأُذن له، فدخل عليه الصلاة والسلام، ونزل سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عن السرير الذي كان يجلس عليه، وأجلَسَ عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر! أَخرِجْ مَنْ عندك. فقال سيدنا أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي. فقال عليه الصلاة والسلام: فإني قد أُذِنَ لي بالخروج". تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "فقام أبو بكر وهو يبكي من الفرح ويقول: الصحبةَ يا رسول الله! الصحبةَ يا رسول الله! فوالله ما شعرتُ قطّ قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ". ثم قال الصدّيق رضي الله تعالى عنه: "يا رسول الله! إن هاتين راحلتان كنت أعددتهما لهذا، فخذْ - بأبي أنت وأمي يا رسول الله! - إحدى هاتين الراحلتين". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مشترطاً عليه: "بالثمن". صحيح البخاري. وهنا يقول أهل العلم: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط أن تكون ناقته بالثمن؛ حتى يفوز بأجر الهجرة لله سبحانه وتعالى". أي حتى تكون الهجرة خالصةً في سبيل الله بماله وليس بمال أحد. فهو عليه الصلاة والسلام الذي ذكر أن هناك من يهاجر دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها. فلم يرد عليه الصلاة والسلام أن يخالفَ فعلهُ قولَه. وهو عليه الصلاة والسلام يقول: "ومن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته لله ورسوله". صحيح البخاري. هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا فعله، وهذا عمله.
اللهم! اجعلنا ممن يهاجر في سبيلك، وممن يهجر المعاصي والذنوب ويتخلى عنها لوجهك الكريم. اللهم! اجعلنا مما يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
6423 |
|
|
تاريخ
النشر: 09/11/2012 |
|
|
|
|
|
|