::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

من نفحات المولد النبوي الشريف

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا "محمد"، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا ، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
 
ذكرى المولد النبويّ: ذكرى النور.. ذكرى الهدى.. ذكرى الخير والرحمة...
سيدنا «مُحَمَّد» صلى الله عليه وسلم هو سيد الوجود.. حبيب الحق وسيد الخلق على الإطلاق.. وذكرى المولد هي ذكرى النور والهداية.. ذكرى انتشار الخير في الأرض.. ذكرى محببة إلى قلوبنا جميعاً...
إذا أهل شهر ربيع الأول أهلّت الفرحة، وعمّ الخير والبِشر، وتزيّنت الدنيا فرحاً وطرباً لذكرى ذلك الإنسان الذي جعله ربنا سبحانه وتعالى رحمة للعالمين حيث قال:[]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ[] سورة الأنبياء (107). هذه الرحمة موصوفة في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة". سنن الدارمي. لقد شملت هذه الرحمةُ العالمَ بأسره سواء كان إنساً، أو جنّاً، أو حيواناً أو جمادا...
كل المخلوقات أفادت من بعثة سيدنا "محمد" صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى خصّه بخصائص لم يخصَّ بها أحداً من الخلق على الإطلاق. قال تعالى:[]لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[] سورة التوبة (128).
فمن هذه الخصائص التي منحها الله تعالى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "من أَنفُسكم" وفي قراءة أخرى "من أَنفَسِكم"، أي من أشرفكم نسباً وأوسطكم حسباً.
كذلك هو "يخشى على أمته الضلال، ويعز عليه أن يصيبها العنت والمشقة". وقد عبّر عليه الصلاة والسلام عن ذلك مرة لما كان يزور البقيع وحوله مجموعة من أصحابه فقال: "وددت أنا قد رأينا إخواننا". قالوا: "أولسنا إخوانك يا رسول الله؟" قال: "أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". صحيح مسلم. ومن حرصه على هذه الأمة كان يبيّن لكل مسلم الخير من الشر، وكيف ينبغي أن يتقي الإنسان المسلم طرق الضلالات فيبتعد عنها، وأن ينحوَ منحى طريق الخير والهداية والرشاد.
ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بوصفه أنه "رؤوف رحيم". الرأفة والرحمة صفتان من صفات الله تبارك وتعالى، وقال المفسرون: لم يذكر الله تعالى نبياًَ بصفة من صفاته إلا سيدنا "محمداً" صلى الله عليه وسلم.
هاتان الصفتان هما من صفات الحق سبحانه وتعالى، وعندما يتصف بهما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه دلالة واضحة على المكانة العظيمة التي أُعطيَها عليه الصلاة والسلام من الحق سبحانه وتعالى.
 
الأمة العظيـمة هي التي تُقَدِّر عظماءها:
أيها الإخوة القراء! تعالوا بنا ونحن نعيش الأيام التي شهدت ذكرى الولادة لنقف عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأةً وبداية وبعثة، ولْنتتبّع الخطوات الأولى لحياته عليه الصلاة والسلام. فالأمة العظيمة هي التي تقدّر عظماءها ومبدعيها، فما بالُكم بسيدنا "محمد" صلى الله عليه وسلم؟ الأمة التي تُعنى بتاريخ نبيها، وشمائله، وسيرته، وأخباره، وغزواته وكل ما يتعلق به، هي أمة متطورة، وتسعى لبلوغ درجة القمة في حسن اتباعها لنبيها.
بعض الناس يعرفون عن حياة الأبطال والعظماء والفنانين والمشهورين كل الدقائق والتفاصيل، لكن إن سألتهم عن حياة سيدنا عمر بن الخطاب، أو سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أو أحدٍ من أولئك العظماء الذين رفعوا راية الإسلام فلا تراه يميز بين الصحابي والتابعي والمجتهد والفقيه والإمام والمحدث...
 
نفحة من سيرته عليه الصلاة والسلام: نسبه، مولده، نشأته:
أ- نسبه عليه الصلاة والسلام:
لا بد لهذه الأمة أن تُعنى بسيرة عظمائها، وفي القمة سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة النسب الشريف الطاهر الذي عُرِف به عليه الصلاة والسلام، إذ كان يفتخر دائماً بأنه ولد من نكاح ولم يولد من سفاح، فإذا عدنا إلى كتب السيرة والتاريخ سنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أشرف الناس نسباً، وأكملهم خَلْقاً وخُلُقاً. وقد ورد ذكر نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة منها قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". مسند أحمد. وفي رواية أخرى تتمة لهذا الحديث: "فأنا خِيارٌ من خيارٍ من خيار". فالله سبحانه وتعالى اختار نسب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشرف الأنساب وأطهرها وأزكاها وأعلاها قَدْراً ومكانة بين الناس.
ذكر الإمامُ البخاري رحمه الله تعالى نسبَ النبي عليه الصلاة والسلام بالتسلسل كاملاً فقال: "محمد" بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النَّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان". صحيح البخاري. ويعد عدنان هو الجد الأعلى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد عدنان لم يُحفظ نسبٌ أبدا. فهو أعلى الأنساب، وتسلسلها إلى عدنان هو تسلسل صحيح لا إشكال فيه أبدا.
لقد قال كثير من كتّاب التاريخ والسِيَر: إن معدن النبي صلى الله عليه وسلم معدن طيب ونفيس؛ فهو من نسل إسماعيل الذبيح عليه السلام، ومن نسل إبراهيم خليل الله وهو استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وبشارة عن سيدنا عيسى عليه السلام. والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الكلام في حديث صحيح ورد في مسند الإمام أحمد وأخرجه الحاكم في مستدركه حيث قال: "أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى". فطِيب المعدن والنسب الرفيع يرفع صاحبه عن الأمور السيئة والدّنيّة، ويجعله يهتم بأعلى الأمور وأفضلها شأناً وقدراً. كذلك شأن الرسل والدعاة والعلماء يحرصون على تزكية أنسابهم وطهر أصلابهم، ويُعرَفون بين الناس بذلك، ولهذا يثق بهم الناس؛ لأنهم يرون فيهم الكَمَلة من الرجال، فما رأيكم بأكمل الرجال في تاريخ هذه الأمة؛ سيدنا "محمد" صلى الله عليه وسلم؟!
يتبيّن أن النسب الشريف الذي ذكره الإمام البخاري في صحيحه يدل دلالة واضحة على أن الله تعالى ميّز العرب على سائر الناس، وفضّل قريشاً على سائر القبائل العربية الأخرى، لذلك فإن مقتضى محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محبّةُ القوم الذين ظهر فيهم، والقبيلة التي وُلد فيها، لا من حيث الأفراد أو الجنس، فنحن نحب العرب ونحب قريشاً لكننا لا نحب أبا لهب مع أنه من القرشيين، إنما نحب هذه الخصيصة وهي خصيصة النسب الشريف والكمال الخَلْقي والخُلُقي الذي برز فيه سيدنا "محمد" صلى الله عليه وسلم.
 
ب- مولده عليه الصلاة والسلام:
النبي صلى الله عليه وسلم هو رؤيا أمه السيدة آمنة، وهو ثمرة زواج شرعي بين عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب، حيث كان سبب هذا اللقاء حادثة طريفة وعظيمة.
يعد عبد الله بن عبد المطلب أحبَّ أولاد أبيه إليه، فقد كان عبد المطلب يحبه حباً كبيراً، وكان أن قرر أن يذبح أحد أولاده، فوقع السهم على عبد الله، ثم نجّاه الله سبحانه وتعالى من الذبح، وفداه أبوه بمئةٍ من الإبل الكريمة غالية الثمن، وبعد ذلك خطب له أشرف نساء مكة نسباً وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة، ويلتقي نسبها مع نسب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجد الأعلى "عدنان".
وبعد مدة يسيرة من زواج عبد الله بالسيدة آمنة توفي بعد أن ثبت الحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان عبد الله ذاهباً في تجارة له إلى الشام، وفي طريقه إلى المدينة المنورة أصابه مرض ومات ودُفِن هناك عند أخواله من بني النجار، وتحديداً عند خاله "عدي بن النجار" فلما مات ترك هذه النسمة المباركة في بطن زوجته السيدة آمنة، وكأن القَدَر الرباني يقول له: لقد انتهت مهمتك في الحياة يا عبد الله! وهذا الجنين الطاهر سيتولى الله سبحانه وتعالى بحكمته ورحمته تربيتَه وتأديبه، وإعداده ليُخرج البشرية من الظلمات إلى النور. وهذا مصداق ما قاله ربنا سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:[]وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[] سورة القلم (4). فقد نشأ يتيماً، وعاش يتيماً، وتنقّل أثناء تربيته من حِجر جده عبد المطلب إلى رعاية عمه أبي طالب من بيت إلى بيت وهو مكلوء محفوظ برعاية الله سبحانه وتعالى الذي لم يتخلَّ عنه في أي لحظة من اللحظات حتى استكمل الخُلُق الأعلى والأسمى.
زواج عبد الله من آمنة يعد أمراً تكميلياً لما ورد في الحديث الشريف: "دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام". مسند أحمد.
القرآن الكريم يحدثنا عن دعوة سيدنا إبراهيم، والتي تعد سبباً مباشراً في وجوده النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة. فيقول الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم:[]رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ[] سورة البقرة (129). فاستجاب الله بأن بعث في قريش رسولاً منهم.
وأما بشارة سيدنا عيسى عليه السلام فقد ذكر القرآن الكريم حكاية عن سيدنا عيسى أنه قال:[]وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ[] سورة الصف (6). وقد ذكر الاسم صراحة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "رأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام". الطبقات الكبرى. فقد بيّن هذا الكلام الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى بقوله: "وخروج هذا النور عند وضعه بشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض وزالت به ظلمة الشرك منها". إذ بُعث عليه الصلاة والسلام في أمة كانت تعبد الأصنام والأوثان من دون الله سبحانه وتعالى.. هذا النور الذي رأته السيدة آمنة إنما هو نور القرآن، ونور الإسلام، ونور الهداية، ونور التبشير، ونور نقل الناس من الظلام إلى النور. ذكر الله تعالى هذا المعنى في قوله:[]يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ(15)يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)[] سورة المائدة. فالذي يتّبع هذا النور ويقتبس هذا الضياء يخرج بسببه من الظلمة إلى النور الذي يكشف الله به الظلام، ويفتح به على عباده نور الهداية والإقبال على هذا الدين.
أما تخصيص الشام بظهور النور في الكلام الذي ذكرته السيدة آمنة فيه إشارة إلى أن الدين سيستقر في بلاد الشام، ولذلك تكون بلاد الشام في آخر الزمان مَعقِلاً للإسلام كما ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره حيث قال: "تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها". إن واسطة العقد في بلاد الشام هي دمشق، وهي شامة الشام، فالله سبحانه تعالى أرى هذا النورَ لآمنة حتى يعلم العالمُ أجمع أن الهداية تنطلق من الشام، ولقد أثبت النبي عليه الصلاة والسلام هذا المعنى بقوله: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". صحيح مسلم. أضاف إليه الإمام البخاري في صحيحه: "وهم بالشام". صحيح البخاري. هذه الطائفة هي طائفة تدعو إلى الله وتنشر العلم وتبلغ الأمانة والرسالة التي جاء بها سيدنا "محمد" صلى الله عليه وسلم. ولو عدنا إلى التاريخ سنجد أن الفتوحات الإسلامية التي انطلقت شرقاً وغرباً فوصلت إلى بلاد الهندالسند، وما وراء النهر، وأفريقيا وأوربة... إنما انطلقت هذه الفتوحات من دمشق الشام حيث كانت معقلاً للخلافة الأموية، وقد كان القادة والفاتحون يرسلون حملاتهم من بلاد الشام بقيادة شباب من أبناء الصحابة والسلف الصالح والتابعين رضي الله عنهم، وقد نقلوا الإسلام إلى هذه البلاد كلها حتى رفرفت فيها راية "لا إله إلا الله، "محمد" رسول الله". إذاً فالله تعالى هيأ الأسباب لولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي ثبت بلا خلاف أنها كانت يوم الإثنين. وأكثر العلماء والمؤرخين من كتاب السير على أنها كانت ليلة اثني عشر خلت من ربيع الأول..وهذا الكلاممجمع عليه وكان ذلك في عام الفيل، وكانت ولادته في دار عمه أبي طالب بشِعب بني هاشم. وقد اغتنم أمير الشعراء "أحمد شوقي" هذه المناسبة فقال قصيدته المشهورة:
وُلدَ الهـدىفالكائـناتُ ضيـاءُ     وفَـمُ الزمـانِ تَبَسُّـمٌ وثـنـاءُ
الـرُّوح والملأ الملائـكُ حـولَه     للديـنوالدنـيـا بـه بُشَـراءُ
والعرشُ يزهـو والحظيرة تزدهي     والمنـتهـى والسـِّدرة العصماءُ
بك بشـَّر الله السـماءَ فزُيِّنَـتْ     وتَضَوَّعتْ مِسـكاً بك الغبْـراءُ
إذا جاءت ليلة الثاني عشر من ربيع الأول يفرح الناس وكأن النبي عليه الصلاة السلام يولد فينا ولادة جديدة، هذه الولادة ينبغي أن تجدد فينا الإيمان والانتماء، وأن تزيدنا اتّباعاً وصدقاً، وأن تُحدِث فينا صحوة إسلامية نحو الدين؛ لأنها تترك أثراً عظيماً في قلوب المؤمنين.
كثير من الناس يجعلون يوم المولد النبوي الشريف بداية انطلاقهم في عهد جديد مع الله، ومع الدين والالتزام؛ فكثير من النساء وضعن الحجاب اهتماماً وفرحاً بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس أقلعوا عن كثير من المعاصي والذنوب لفرحهم بمولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمرٌ ملاحَظ؛ حيث تعم الأفراح في هذا اليوم في كل مكان، فتزدان المساجد وتُضاء، وتقام اللقاءات العلمية والمدائح النبوية ابتهاجاً لذكرى ولادة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس الهدف من ذلك لا تضييع الوقت - كما يظن بعض الناس - أو هدر المال، إنما إحياء الإيمان في النفوس.
 
جـ- نشأته عليه الصلاة والسلام:
كيف بدأ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته؟؟؟
نحن نوثّق اليوم مراحل نشأة أولادنا الصغار ابتداءً من لحظة الولادة، إلى أن يصبح عمر الطفل أياماً قليلة، ثم يبدأ يحبو، ثم يزحف، ثم يمشي، ثم ينطق، ثم يتعثر... فكثير من الناس يوثّقون بالصور وأفلام الفيديو وغير ذلك ليعرضوا ذلك في المستقبل على طفلهم الذي يمكن أن يكون له شأن كبير في الأمة والمجتمع. فما بالكم بسيدنا "محمد" صلى الله عليه وسلم؟! مَن أصلح الله به الدنيا والدين، ونوّرَ به القلوب وهَدى الحائرين، ورفع بسببه الظُّلم والظلام عن هذه الدنيا... فتعالوا بنا نتلمّس الخطوات الأولى في حياته صلى الله عليه وسلم، ونتتبّع ما جاء في صحيح السنة عنها...
إن أول ما ينبغي أن نعلمه عن حياته عليه الصلاة والسلام هو ما يتعلق برضاعته وحضانته. المعروف أن العرب كانوا يبحثون لأولادهم عن مرضعات من البادية؛ لأن البادية أكثر صفاء للذهن؛ نظراً لما تتمتع به من الهواء العليل، والغذاء الزكي الذي لا تدخله الشوائب التي تكون في الحاضرة.
الحاضنة التي أشرفت على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أم أيمن "بركه الحبشية"، وقد كانت أمَةً جارية عند أبيه عبد الله فظلـَّت تخدم في بيت آمنة إلى أن حضنت سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أول من أرضعته هي "ثويبة" أمَة عمه أبي لهب، والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وُلد فرح به أعمامه جميعاً، ومنهم عمه أبو لهب الذي سيناصبه العداء في المستقبل. فعندما ولد سيدنا "محمد" عليه الصلاة والسلام جاءت الجارية تخبر سيدها أبا لهب بمولده، فكان منه أن أعتقها فَرَحاً بهذا الخبر.
وأما التي تولّت رضاعته عليه الصلاة والسلام فهي المرأة المباركة من بني سعد "حليمة السعدية". لقد كان لحليمة السعدية قصة طريفة مع سيدنا "محمد" صلى الله عليه وسلم، وكان لها بركات لمست آثارها في نفسها وولدها وبيتها وحتى في رعيها؛ فقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ولد قدِمت حليمة بنت الحارث في جماعة من النسوة من بني سعد يلتمسن الرُّضعاء في مكة، وكان أهل مكة على جانب من المال والغنى والثراء. تقول السيدة حليمة: "خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء بمكة على أتانٍ[1][1] لي قَمْراء[2][2] في سنة شهباء لم تُبقِ شيئا، ومعي زوجي ومعنا شارِف[3][3] لنا، والله ما إن يبض علينا بقطرة من لبن، ومعي صبي لي إن ننام ليلتنا من بكائه، ما في ثديي ما يغنيه، فلما قدمنا مكة لم تبقَ منا امرأة إلا عُرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة الرضاعة من والد المولود، وكان يتيماً، وكنا نقول يتيماً ما عسى أن تصنع أمه به؟! حتى لم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبياً غيري، فكرهتُ أن أرجع ولم أجد شيئاً وقد أخذ صواحبي، فقلت لزوجي: والله لأرجعنّ إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فأتيته فأخذته ورجعت إلى رحلي، فقال زوجي: قد أخذتِه. فقلت: نعم. والله وذاك أني لم أجد غيره. فقال: قد أصبتِ فعسى الله أن يجعل فيه خيراً. قالت: فوالله ما هو إلا أن جعلته في حجري أقبلَ عليه ثديي بما شاء الله من اللبن، فشرب حتى روي، وشرب يتحقق - يعني ابنها - حتى روي، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا بها حافل[4][4]، فحلبها من اللبن ما شئنا، وشرب حتى روي، وشربت حتى رويت، وبتنا ليلتنا تلك شباعاً رواء، وقد نام صبياننا. يقول أبوه (يعني زوجها): والله يا حليمة! ما أراكِ إلا قد أصبتِ نسمة مباركة. قد نام صبيناً وروي. قالت: ثم خرجنا، فوالله لخرجتْ أتاني أمام الركب حتى إنهم ليقولون: ويحكِ! أليست هذه بأتانك التي خرجت عليها؟! فأقول: بلى والله! وهي قدامنا حتى قدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر، فقدمنا على أجدب أرض الله، فوالذي نفس حليمة بيده إن كانوا ليُسرِحون أغنامهم إذا أصبحوا ويسرح راعي غنمي فتروح بطاناً لبناً حفلاً، وتروح أغنامهم جياعاً هالكة ما لها من لبن. قالت: فنشرب ما شئنا من اللبن، وما من الحاضر أحد يحلب قطرة ولا يجدها. فيقولون لرعائهم: ويلكم! ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة؟! فيسرحون في الشعب الذي تسرح فيه، فتروح أغنامهم جياعاً ما بها من لبن، وتروح غنمي لبناً حُفَّلاً". صحيح ابن حبان.
 هذه القصة فيها كثير من البركات والخيرات التي تدل على فضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
خاتـمة:
نختم بالإشارة إلى أن بركة النبي صلى الله عليه ويلم قد حلّت على السيدة حليمة منذ أن كان طفلاً رضيعاً، وهي من أبرز مظاهر إكرام الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام أن حل ضيفاً على حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه، وليس في ذلك أي غرابة أو عجب؛ فخلْفَ ذلك حكمةٌ عظيمة وهي أن يحب أهلُ هذا البيت هذا الطفلَ الصغير، ويَحنوا عليه، ويُحسنوا معاملتَه ورعايتَه وحضانتَه، وهكذا كان؛ فقد كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم.
اللهم صلِّ على سيدنا "محمد" طِبِّ القلوب ودوائها، وعافيةِ الأبدان وشفائها، ونورِ الأبصار وضيائِها، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
 
 
 
 


 
 
 
 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 4710

 تاريخ النشر: 21/01/2013

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 732

: - عدد زوار اليوم

7395659

: - عدد الزوار الكلي
[ 56 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan