::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

مراتب الصائميـن (1)

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

        ما أروع أيام رمضان ولياليه التي نعيشها وأكرمنا الله سبحانه وتعالى فبلغنا إياها، ها نحن نتقلّب في نعمة الله الكبرى، ها نحن نعيش رحمات شهر الصوم، ونشهد تنزّلات المغفرة من السماء، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يغفر لهم في شهر رمضان...
^ "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها":
         نفحات الله سبحانه وتعالى تتنزل على عباده بشكل مستمر ودائم. كما ورد في الحديث: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها". كشف الخفاء.
فلنتعرّضْ لرحمات الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر، لنتعرض لها وقتَ السحر حيث ينزل الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا وينادي عباده: "((هل من سائل فأعطيَه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟))". مسند أحمد. حتى يطلع الفجر.
لنتعرض لهذه الرحمات عند الإفطار، فساعة الإفطار ساعةٌ مباركة يُستجاب فيها الدعاء. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد". ابن ماجة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يستجيب دعوتنا، ويتقبل صيامنا، ويعيننا في شهر رمضان على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان.
^ ما هي درجات الصوم؟":
ذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى درجات الصوم بقوله: "الصوم على ثلاث درجات؛ صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص".
1- صوم العوام:
صوم العوام هو حالة يعيشها كثير من الناس، وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة (هذا هو الصوم كما عرّفه الفقهاء). لكن إضافة إلى هذا فإنهم لا ينتهون عن الأخلاق السيئة، ويقعون في الأخلاق القبيحة، وربما وقعوا في الحرام؛ كالغش، وأكل المال الحرام، وعدم غض البصر والسمع.
فصوم العوام هو فقط إقلاع وإمساك عن الطعام والشراب، وانغماس في باقي الملاذّ والشهوات الحسية والمعنوية، لا يردعهم صيامهم عن ترك هذه الأخلاق القبيحة.
^ الأخلاق التي يتدرب عليها الصائم في رمضان كي يترفّع عن صوم العوام:
الصائم يربّي نفسه أثناء الصيام على مجموعة من الأخلاق والمُثل والفضائل والقيم العظيمة؛ التي يُنَشَّاُ عليها خلال هذه المدرسة التي تفتح أبوابها مدة ثلاثين يوماً.
أ- الإخلاص لله تعالى:
فالصائم حينما ينقطع عن الشراب والطعام والملاذّ... هو يراقب الله تعالى، ويقوم بهذا العمل مخلصاً به لله، لا يريد جزاءه من أحد سوى الله سبحانه وتعالى كما ورد في الحديث القدسي:(("كل عمل ابن آدم له،إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به")). المعجم الأوسط.
فقد أضاف الله سبحانه وتعالى الصوم له إضافة تكريم وتشريف، فمثلاً قولنا: "عبد الله"، أو "عبد الكريم"، أو "عبد اللطيف"، أو "عبد الرحيم"... فهذه العبودية حصراً لله سبحانه وتعالى، كذلك قولنا: "بيت الله"، و"شهر الله". هذه الإضافة هي إضافة تشريف إلى المولى سبحانه وتعالى، كذلك الصوم هو لله...
فأول ثمرات الصيام التي يجنيها الصائم، والتي يتعلمها في مدرسة الصيام أن يجعل عبادته خالصة لله تعالى، لا يشرك فيها أحداً أبداً.
ب- الخوف والرجاء:
        الخوف والرجاء كما عرّفهما كثير من العلماء: "جناحان لا بد لكل مؤمن أن يطير بهما إلى الله سبحانه وتعالى". فكل عبادة يتعبد بها الإنسان ربه عز وجل لا بد لها من أن تكون مصحوبة بالخوف من ألا تُقبَل، وبالرجاء لكي تُقبل ويثيبَ الله سبحانه وتعالى عليها صاحبها الشيء الكثير. فمثلاً إذا صام الإنسان - نفلاً أو فريضة - لله تعالى فعند إفطاره عليه أن يعيش حالة الخوف والرجاء، وهي الحالة الوسط، فلا يكون خائفاً لا يرجو أبدا، ولا راجياً طامعاً ليس عنده خوف، بل عليه أن يتقلب بين هذين المقامين العظيمين، وهما من أعظم مقامات الصالحين الذين تدرّبوا على هذه الأخلاق، ودرجوا عليها في سلوكهم وحياتهم.
جـ- الحِلم والصبر:
        على الإنسان أن يتدرب على الصبر، ومن أولى أولويات الصوم أنه يصنع الصبر صناعة عند الصائمين. الصبر نصف الإيمان، فإذا تحقّق للصائم صبرُه، يكون قد أدرك بصيامه وبهذه المدرسة العظيمة نصفَ الإيمان.
المسلم الصائم يعطش ويجوع ويتعب ويشتد في نهار رمضان، وربما يصيبه شيء من الانزعاج والضيق من زميله، أو جاره، أو أخيه، أو ولده... وربما يتضايق من نفسه، فالحلم أحوج ما نكون إليه في هذه الأيام التي نتقلب فيها في نعمة الصيام، ولا يمكن أن نخرج من مدرسة الصيام إلا وقد تدربنا على هذا الخلق العظيم، أن نحلم على الجاهلين ونصبر عليهم ونتجاوز خطأهم ونحتملهم؛ لنجد منهم أيضاً من يحتمل أخطاءنا ويوسع صدره معنا.
رحم الله الأحنف بن قيس الذي كان يُضرب به المثل في الحلم، تبعه أحد السفهاء يوماً، فظل يشتمه إلى أن بلغ حيّه، فلما أراد أن يدخل إلى بيته وذلك السفيه يشتمه ويسبه ويسيء إليه نظر إليه الأحنف وقال: "توقّفْ عن هذه السفاهة حتى لا يخرج لك أحد سفهاء القوم فيسيء إليك".
فالمسلم الصائم يتعلم ويتدرب على خلق الحلم في هذا الشهر العظيم المبارك.
ء- الحيـاء:
        الحياء كما عرّفه العلماء: "خلق يبعث على ترك القبيح من العمل، ويمنع من التقصير في حقِّ ذي الحق". علينا أن نستوعب كلمة الحياء بشكل جيد، ليس الحياء احمرار الوجه، ولا إطراق الرأس في الأرض، ولا انكسار البصر، فهذه الحالات تندرج تحت ما يسمى بـ "الخجل"، أما الحياء الحقيقي فهو الوقوف عند حدود الله سبحانه وتعالى كما فسّره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "استحيوا من الله حق الحياء". قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحيي. قال: "ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبِلى". سنن الترمذي.
هذا هو الحياء الحقيقي، الصوم يعلّم الإنسان ويدرّبه على الحياء حتى يتعامل مع الناس بهذا الخلق الكريم، فلا يأكل حقوق الآخرين ولا يتجاوزها إلى غيرها، فيكون بذلك مطبّقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ الرأس والبطن معاً، الرأس فيه العين والأذن والفم والذوق فعليه ألا يأكل ولا يشرب ولا ينظر ولا يسمع ولا يتذوق إلا ما كان مباحاً وحلالاً وطيباً. كذلك البطن، فلا يدخل في جوفه من الحرام طعاماً ولا شراباً، ولا يمشي برجليه إلى منكر، ولا يفعل بيديه ما فيه معصية الله سبحانه وتعالى.
هذه الأخلاق هي التي ينبغي أن يحافظ عليها الإنسان الصائم، فلا يكون صومه هو صوم عامة الخلق، مجرّد كفّ البطن والفرج عن الوقوع في شهوتيهما.
 
2- صوم الخواص:
        هو صوم الصالحين، ويتمثّل في كفّ الجوارح عن الآثام:
أ- غضّ البصر:
        على المسلم ألا يترك بصره يشرّق ويغرّب كما يحلو له، بل عليه أن يحفظه من الوقوع في الحرام وإبصار ما لا يحلّ له. فمن غض البصر إيماناً واحتساباً لله سبحانه وتعالى يجد في قلبه حلاوة، ويكون صيامه محفوظاً نقياً وخالياً من أية شائبة.
نلاحظ أن كثيراً من النساء لا يتورعن عن الخروج في نهار رمضان أو ليله دون احتشام، فيبدين مفاتنهن، ويلبسن الملابس الضيقة والرقيقة والقصيرة... نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا ويعافيهم من الوقوع في معصية الله.
هي خرجت هكذا، لكن نحن علينا أن نغض البصر ونضبطه ونحفظه من الوقوع في الحرام، ومن إعطاء هذا البصر حريته، وإطلاق العنان له، فيتابع كل ما يرى أمامه.
ب- حفظ اللسان:
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "خمسة أشياء تُحبِط الصوم؛ الكذب والغيبة، والنميمة، واليمين الغموس والنظر بشهوة". هذا الأشياء ينبغي أن يتورع الصائم عنها وأن يتركها لله سبحانه وتعالى، فإذا كان الإنسان في غير شهر رمضان ابتُلي بهذه الأمور، فعليه في شهر رمضان أن يحرص كل الحرص على حفظ لسانه.
البديل عن هذه الأمور أن نشتغل بذكر الله تعالى، فالاستغفار مثلاً له مكانة عظيمة في الإسلام لذلك جمع الله تعالى بينه وبين كلمة التوحيد في آية واحدة هي قوله سبحانه وتعالى:[]فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ[] سورة محمد (19). هذه الآية جمعت ركنين عظيمين. كذلك الاستغفار ختم الله به كثيراً من العبادات؛ الصيام، الحج، الزكاة، الصلاة، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم خُتِمت بالاستغفار كما قال الله تعالى:[]فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ...[] سورة النصر (3). وسورة النصر هي التي أعلنت أجل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علينا أن نحرص على أن يكون لساننا منشغلاً بذكر الله تعالى طوال النهار وفي الليل، وأن نكثر من الاستغفار، وإذا سمعنا أحداً من الناس يشتم أو يسب أو يتكلم كلاماً فاحشاً أو بذيئاً فالعلاج لذلك أن نقول اللهم "إني صائم" كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم
جـ- حفظ السمع:
كف الأذن عن استماع كل مكروه، كالموسيقى، والغناء الفاحش والماجن، هنا أريد أن أتكلم عن مسألة مهمة،هوي أن نحفظ سمعنا من أمرين؛ الأمر الأول: حفظه عن الحرام، والأمر الثاني ألا يصيبه حالة من التلوث السمعي؛ فلا يقيّم فيما بعد ويقدّر الشيء الصحيح، هناك من الناس اليوم من ابتلي بسماع الكلمات الهابطة التي نسمعها في الطرقات و السرافيس، ويعوّد أسماع أولاده عليها (شخبط شخابيط...) هذا الكلام هو الذي يلوث سمعهم، ولغتهم، وثقافتهم، فيفقد الطفل القدرة على التمييز بين الكلام الصحيح المنضبط بقواعد اللغة وأدبها، وبين الكلام الذي ألفه الناس من هذه المحطات الفضائية والإذاعات وكراجات السرافيس وغير ذلك الذي مما يتصاعد من هنا وهناك دونما أي ضابط.
لغتنا العربية هبي الذي أثنى عليها سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: "إن من البيان لسحرا". "إن من الشعر حكمة". صحيح البخاري. فكيف نسمح لأنفسنا بالإصغاء إلى هذه الألفاظ التي لا تتناسب مع ما متّعنا به الله سبحانه وتعالى من قدرات ومفردات غنية في هذه اللغة، اللغة العربية أغنى اللغات الحية على الإطلاق .
ء- كفّ الأعضاء عن المكاره:
الأشياء المكروهة التي فيها شبهة الحرام، كأن نكف البطن عن الشبهات، فلا نأكل إلا الطعام الحلال الخالص. فليس من المعقول أن يصوم الإنسان طوال النهار عما يَحِلّ له ويفطر على ما هو حرام. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ربّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". مسند الشهاب.
ء- عدم الاستكثار من الطعام الحلال وقت الإفطار:
كي لا تُملَأ البطون، فإذا مُلِئَت البطون تراخت المفاصل و الأعضاء .
هناك عبادة تلي الإفطار على الفور، هي صلاة التراويح، وصلاة التراويح - ولله الحمد – تشهد هذه الأيام إقبالاً كثيفاً من الصائمين، لكن العشر الأوائل من شهر رمضان تمتلئ فيها المساجد، وفي العشر الأواسط يبدأ العدّ بالتنازل، أما في العشر الأخير تنظر في المساجد فلا تجد أكثر الناس، يكونون قد ذهبوا إلى الأسواق، أو انشغلوا بمتابعة الحلقات الأخيرة من المسلسلات المثيرة التي شغلت القنواتُ الفضائية نفسَها بها، أو أنهم من كثرة الطعام على الإفطار ارتخت مفاصلهم فلم يستطيعوا متابعة العبادة وصلاة التراويح، وقد قال العلماء: "الفطنة تُذهِب الفطنة". فعدم الاستكثار من الطعام وقت الإفطار فيه حكمة كبيرة, وهي المحافظة على الهمة عالية في صلاة العشاء وصلاة التراويح.
يتبع / ...

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 4587

 تاريخ النشر: 20/07/2013

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 69

: - عدد زوار اليوم

7398699

: - عدد الزوار الكلي
[ 68 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan