الإيـثار و مراتبه
بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان
الإيثار هو أن تؤثر منافع غيرك على منافعك، أن تحب لأخيك كما تحب لنفسك، بل وأكثر مما تحب لنفسك، أن تعطي لأخيك مثل أو أكثر مما تعطي لنفسك، أن تفضل منافع الغير على منافع نفسك رغبة في إرضاء الله سبحانه وتعالى.
الإيثار خُلُقٌ عظيم من أخلاق الإسلام، دعا إليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعاً سلوكياً وعملياً. هذا الخلق لا يكون إلا في إنسان أحب الله ورسوله، وأحبه الله ورسوله؛ لأنه لا يتخلق به إلا أصحاب القلوب التي وعت إنسانيتها، والتزمت دينها، وتحقق لها القرب من الله سبحانه وتعالى، إنه خلق الإيثار... الخلق الذي صار علماً على الأنصار، حيث أنهم فاقوا به غيرهم وتميزوا به عمن سواهم، ولعظيم أثره، وشرف قدره أثنى الله تعالى على الأنصار فقال جل شأنه:[]...وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[] سورة الحشر (9).
والمعلوم تاريخياً أن المسلمين الأوائل لما هاجروا من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تركوا وراءهم أموالاً ودوراً وعقارات، وهاجروا فراراً بدينهم، ولحاقاً بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنْ وصلوا المدينة المنورة عَرَض عليهم إخوانهم من الأنصار أن يُقاسموهم في أموالهم وسُكناهم، فأثنى الله تعالى عليهم هذا الثناء العظيم.
مراتب خُلُق الإيثار:
قسّم بعض العلماء خلق الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقد قال الإمام "ابن القيم" رحمه الله تعالى:
الدرجة الأولى: إيثارُ رضاء الله على رضاء غيره وإن عظُمت فيه المحن، ولو أغضب الخلْق كلَّهم أجمعين، بل أن يُسْخِط الخلق لكي يُرضيَ الخالق سبحانه وتعالى. وهذه الدرجة هي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. قال الشافعي رحمه الله: "رضا الناس غايةٌ لا تدرك، فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالْزمهُ". ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره. ولقد أحسن من قال:
فليتـكَ تحلُو والحياةُ مـريرَةٌ وليتكَ ترضى والأنامُ غِضَابُ
وليت الذي بيني وبينكَ عامرٌ وبيـني وبين العالمـين خرابُ
إذا صحَّ منكَ الوُدُّ فالكّلُّ هينٌ وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ
تُنسَب هذه الأبيات لأبي فراس الحمداني، والموقف في البيت الأول منها موقف عظيم، فإذا كان هذا الكلام بحق المولى سبحانه وتعالى فهو نِعمَ القول.
الدرجة الثانية: أن تُؤْثِرَ الخَلْقَ على نفسك فيما يرضي الله ورسوله وهذه هي الدرجات التي يتفاوت فيها المؤمنون من الخلق، والمحبون من خلصاء الله.
ما أجمله من خلق يجعل الحياة سعيدة وطيبة رضية، ويجعل التكافل فيما بين الناس مما فيه رضا الله سبحانه وتعالى، ويحقق هذا التوازن الإنساني والاجتماعي الذي يحرص عليه الدين. هذا الخُلق يقلب بيداء الحياة إلى واحة ندية، ويذلل صعبها ويخفف مصابها، يشعر الإنسان من خلاله بأن حوله أصحاباً أوفياء، وأصدقاء أمناء يخلصون له في الحل والترحال، ويسارعون إلى معونته وإسعافه في الضيق والعسر، إنه خلق عظيم؛ لأن الإنسان يتعب الواحد ليستريح إخوانه، ويحتاج – وربما يفتقر - ليستغنوا، ويشقى ليسعدوا، لذا كان أجره عند الله عظيماً وثوابه جزيلاً، وإذا كان هذا الخلق لا يُدرَك إلا إذا رُزق العبد قريحة وقادة ونفساً منقادة، واتصف مع ذلك بعلم نافع وإيمان راسخ وصبر جميل، فإن مما يعين عليه ويدفع الهمم إليه أن يعلم الإنسان فضائله ومكانته، ليكون ذلك عونا له على التخلق به.
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
9579 |
|
|
تاريخ
النشر: 28/08/2013 |
|
|
|
|
|
|