لا تقبل إلا بالدّليل! وليس أيّ دليل..
بقلم : دعاء الأصفياء
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والصّلاة والسّلام على رسوله الكريم
بات يعانيها المسلمون اليوم عندما يبحثون عن أمور دينهم وعلى الوجه الّذي يرضي الله عزّ وجلّ.. هذه المشكلة هي تعدّد الفتاوى والآراء الّتي تَصدر من قبل العلماء حول قضايا فقهيّة مختلفة، لا أظنّ هذه الظّاهرة خافية على أحدكم؛ فعلى سبيل المثال نجد أحد العلماء في إحدى الفضائيّات يتكلّم حول مسألة ما في الدّين ويضع لها حكماً شرعيّاً معيّناً، وإذا قلبنا إلى فضائيّة أخرى نرى عالماً آخر يتكلّم في المسألة نفسها واضعاً لها حُكماً آخر، وفي فضائيّة ثالثة نجد حكماً شرعيّاً ثالثاً، وربّما تذهب أنت نفسك وتسأل أحد المشايخ في حيّك فتُدهش برأي رابع...
إذا عدنا إلى عهد مضى منذ ما يزيد على ألف وأربعمئة عام، عهد النّبع الصّافي الّذي لا شائبة فيه، عهد سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّنا لا نجد كلّ هذه الاختلافات. في ذلك الزّمان كان النّاس إذا أشكل عليهم شيء من أمور دينهم زال هذا الإشكال ببساطة؛ لأنّهم في عهدِ تنزُّل الوحي الإلهي حيث تتنزّل الآيات القرآنيّة موضّحةً ما غمض، ويسمعون الحكم من أصدق الخلق صلّى الله عليه وسلّم، فلم يكن هناك تلك الحَيرة وذلك التّيه. أمّا اليوم فقد كثرت مصادر العلم والفقه، وتعدّدت الآراء واختلفت، وكثر ظهور العلماء على الفضائيّات، ومن خلال الكتب والمواقع الإلكترونيّة والإذاعات... فاختلطت الأمور، وأصبح النّاس يعيشون دوّامة لا يجدون للخروج منها سبيلا، لمن سيسمعون؟ وعمّن سيأخذون؟ وكلامَ من سيطبّقون؟؟ فغدا الواحد منهم يشعر وكأنّ مطارق تطرق على رأسه.
طبعاً هناك أمور يختلف فيها العلماء، لكن اختلافات بسيطة لا تُحدِث إشكالاً، وهذه ليست موضع حديثنا، إنّما المقصود قضايا نجد فيها آراء متناقضة وفتاوى متضاربة متعاكسة تماماً، كأن يقول أحد العلماء: افعل هذا الأمر فهو حلال، ويقول آخر: لا تفعل فإنّه حرام. والسّؤال: كيف سنصل إلى الرّأي الصّحيح، وأيّ الرّأيين نأخذ به؟؟ بكلّ بساطة هناك ما يسمّى بـ "الدّليــل"، وفي المقدّمة القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة الشّريفة، المصدرين الّذين نحمد الله تعالى على حفظهما، فلولا ذلك الحفظ لعاش المسلمون تشتّتاً ما بعده تشتّت. فبالدّليل نتخلّص من الضّياع بإذن الله، ويكفينا الله همّ التّحيّر بين هذا العالم وذاك، ولا بدّ من وقفة هنا: ليس علماء اليوم كلّهم علماء بالمعنى الحقيقي، فهناك العلماء المتعمّقون الصّادقون الّذين هم أهل للدّعوة، وهناك الّذين يمارسون العلم والإفتاء وهم لا يفقهون جزءاً منه، وهناك الّذين ربّما دخلوا حقل الدّعوة بشكل خاصّ ليشتّتوا الأمّة ويضيّعوا أبناءها!!
لا بدّ من الحذر وعدم الأخذ بأيّ حكم إلا بعد التّحقّق والحصول على الدّليل، ولكن أي دليل؟؟ هل نأخذ ذلك الحكم بمجرّد نطق ذلك العالم - أو ربّما المفتي بتعبير أقوى - بنصّ نبويّ شريف؟؟ ربّما يكون ذلك النّصّ ضعيفاً جدّاً وفي الصّحاح القولُ المناقض له، حينئذٍ نأخذ بالنّصّ الأقوى ونعمل بالحكم الموافق له. وربّما يذكر أحد العلماء دليلاً ويدّعي أنّه في الكتاب الفلانيّ وهو مطمئنّ أنّك لن ترجع إلى ذلك الكتاب وتتأكّد من صحّة الدّليل، ولكن إذا رجعت حقيقة فلن تجد ذلك الدّليل. أو ربّما يعطيك دليلاً ويقول: إنّه في كتاب كذا ويكون بالفعل موجوداً، لكن.. أيمكننا الوثوق بأيّ كتاب عشوائيّاً؟؟ لا بدّ أيضاً من التّحقّق من صحّة النّصّ الموجود في الكتاب، وربّما يكون الكتاب نفسه لشخص لا يؤخذ بكلامه. إذاً لا بدّ من التّمسّك بالدّليل؛ الدّليل الصّحيح الموثوق لنصل إلى الدّين الصّحيح. هذه نقطة.
النّقطة الأخرى: هل نحن مضطرّون دوماً للسّؤال عن الدّليل؟ سأوضّح معنى هذا السّؤال: ربّما نبحث عن حكم مسألة ما في الدّين ونجد آراء متعدّدة فيها، ومن بين تلك الآراء رأي غير منطقيّ على الإطلاق لا يقتنع به أدنى مسلم. هنا لا حاجة للسّؤال عن الدّليل، بل نُعرِض عن هذا الرّأي ولا نأخذ به أبداً. فمثلاً: حكم الموسيقى في الإسلام؛ معلوم أنّ هذه القضيّة هي إحدى القضايا المختلف عليها في هذا العصر تحديداً، فمن العلماء من يقول بحرمتها ودليله مأخوذ من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كقوله عليه الصّلاة والسّلام: "ليكوننّ من أمتي أقوام يستحلون الحِرَّ والحرير والخمر والمعازف". صحيح البخاري. والورع واضح في هذا الحكم. ومنهم من يقول بحلّيتها إن رافقتْ كلاماً لا حرمة فيه، ومنهم من يقول باختلاف حكم الموسيقى المرافقة للأناشيد الهادفة الّتي لا خلل في كلماتها ولا شطحات؛ فإن لم يكن للموسيقى تأثير على النّفس وكان الاهتمام مشدوداً لمعاني الأنشودة فهي حلال، وإن أثّرت الموسيقى المرافقة في النّفس فهي حرام. إلى هنا نجد تعدّد الأحكام، وربّما يلتبس الحكم الصحيح على الكثيرين، فلا بدّ إزاء ذلك من البحث والتّدقيق للوصول إلى الحكم الأورع مع دليله إن كنّا حقّاً نريد تطبيق دين صحيح. أمّا أن يأتي من يقول: إنّ الموسيقى حلال دون أدنى شكّ، ولا يكتفي بذلك، إنّما يفتري أيضاً على سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتّهمه أنّه سمع الموسيقى، وهو الّذي نهى عنها ولم يسمعها وحتّى قبل البعثة. فعن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته، فإني قد قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل. فخرجت أريد ذلك، حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان بن فلان تزوج بفلانة بنت فلان. فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني، فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس. قال: فجئت صاحبي فقال: ما فعلت؟ قلت: ما صنعت شيئاً. ثم أخبرته الخبر. قال: ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فقال: أفعل. فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت حين دخلت مكة تلك الليلة، فجلست أنظر فضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته". تاريخ الّطبري. للأسف لم يجد البعض وسيلة لإثبات باطله إلا الافتراء على سيّد الخلق أجمعين عليه الصّلاة والسّلام، فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آخر المطاف مستمعاً للموسيقى والغناء، مصافحاً الأجنبيّات من النّساء. هكذا آراء وفتاوى أجد من السّذاجة أن نبحث عن دليل يثبت صحّتها؛ لأنّنا من غير المعقول أن نصدّقها، بل علينا نبذها وتحذير النّاس منها.
إن كنت حريصاً على دينك فابحث عن الدّليل الصّحيح، ولا تسمعه فقط، بل ابحث، ودقّق، وافحص. ولا بدّ هنا من توجيه نداء لعلمائنا الأجلاء الصّادقين، الّذين يسعَون ليل نهار إلى النّهوض بأمّتنا وتعريفها بأمور دينها، وإنقاذها من الجهل والتّخلّف.. رجائي أن تجعلوا هذا الأمر ضمن اهتمامكم، وترفقوا كلّ حكم في الدّين بدليله الذّي يثبت صحّته مع مصدر ذلك الدّليل؛ كي لا تتركوا مجالاً للمغرضين والجاهلين بإعطاء آراء على أهوائهم، وما أسهل الكلام إن لم يكن مصحوباً بالدّليل! وبذلك تبقى الأمّة - لا سمح الله - في تخبّطٍ وضياع.
نسأل الله أن يجزي علماءنا كلّ خير على ما يبذلونه من جهود في عملهم، ونسأله أن يجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحمي المسلمين مّمن يسعون لإغوائهم باسم الدّعوة والدّين، وأن يدلّهم على العلم النّافع الصّحيح، ويرشدهم إلى عبادته حقّ العبادة. والحمد لله ربّ العالمين.
التعليقات:
3 |
|
|
مرات
القراءة:
3474 |
|
|
تاريخ
النشر: 27/07/2010 |
|
|
|
|
|
|