احترام "الرأي الآخر" .. إلى أيّ حدّ؟
بقلم : دعاء الأصفياء
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والصّلاة والسّلام على رسوله الكريم
والرّأي الآخر... مصطلح يتردّد ذكره كثيراً في هذا العصر. مسألة ما تُرى من أكثر من زاوية، فينشأ الاختلاف والخلاف على كيفيّة التّعامل معها؛ لأنّ أصحاب الرّأي يرون أنّ فهمهم لتلك المسألة وطريقة تعاملهم معها هو الصّحيح، بينما يرى أصحاب الرّأي الآخر الصّحّة في فهمهم هم, وربّما لم يكن هذا المصطلح (الرّأي والرّأي الآخر) موجوداً في عهد النبوّة؛ لأنّ آراء "المؤمنين" - من ناحية - قلّما كانت متباعدة آنذاك، ولأنّ أصحاب الآراء كثروا في عهدنا من النّاحية الأخرى.
ثمّة كثير من المسائل الّتي يختلف عليها الناس، ومثالاً على ذلك: التّحدّث باللّغة العربية وعدم إدخال مفردات أجنبيّة على حديثنا اليوميّ، فأهل اللّغة العربيّة يرون زيادة الحرص على خلوّ الحديث من أيّ مصطلح أجنبيّ؛ كي لا تضيع مفردات لغتنا وتُنسى، لكن على النّقيض؛ يرى بعض النّاس مبالغةً في هذا الأمر، فهم لا يرون مانعاً من وجود بعض الكلمات الدّخيلة، لاسيما الّتي تكون في الأصل أجنبيّة. في تلك الحالة يحترم أهل اللّغة العربيّة هذا الرّأي، ويمضون في دعوتهم إلى المحافظة على نقاء اللّغة وصفائها. وفي الوقت نفسه إذا كان أصحاب الرّأي الآخر مصرّين على رأيهم بأن لا غبار على استعمالهم بعض الكلمات الأجنبيّة، فيبقون على رأيهم دون أن يسعوا إلى إجبار الآخرين على هذه الفكرة.
ويبقى الأمر هيّناً ما بقي الاختلاف على هكذا نواحٍ فقط، لكن المشكلة في الاختلاف على أمور في صلب الدّين، وتمسّ العقيدة والعبادات في كثير من الأحيان، فنرى كثيراً من الأشخاص يستغلّون فكرة "الرّأي والرّأي الآخر"، ويسترسلون في إعطاء آرائهم فيما يخصّ الدّين، والمصيبة أنّ كثيراً من هؤلاء لا يفقهون شيئاً في الدّين، فيبدؤون بإعطاء الآراء الّتي لا تقتصر على كونها "آراءً أخرى" فحسب، إنّما تكون فِكْراً آخر، لكنّه فكرٌ باطل يريدون نشره على أنّه هو الحقّ. وبهذا أصبح مصطلح "حرّيّة الرّأي والرّأي الآخر" أكثر خطورة، والأخطر من ذلك أن يفسح الطّرف الـمُحِقّ لهذا الآخر المجالَ في التّمادي وفرض الباطل، ويترك له الحرّيّة المطلقة في نشر هذه الفكرة أو تلك دون أن يعترض عليه أحد، وإذا قام شخص للدّفاع عن الحقّ وسدِّ الطّريق الّذي ربّما يُضلّ ويُغوي كثيراً من الآخرين، فإنّهم يقفون في وجهه ويُخرِسونه، بحجّة ماذا؟؟ بحجّة الحرّيّة الّتي يجب أن نتيحها للرّأي الآخر.
نعم. من حقّ صاحب الرّأي الآخر أن يبدي رأيه، لكنّ هذه الحرّيّة - لاسيما حين يكون الرّأي خاطئاً وبأمور تمسّ الدّين على وجه الخصوص - لا تعطيه الحقّ في فرض رأيه على النّاس. فمثلاً في كثير من المواقع الإلكترونيّة هناك ساحة ليبديَ القرّاء آراءهم في الموضوعات المطروحة في الموقع، وهذه فكرة جيّدة؛ فيمكن أن يخطئ الكاتب في فكرة ما فينبّهه القارئ لذلك الخطأ، فإن كان الخطأ عن غير قصد يتلافاه الكاتب ويتمّ التّصحيح، وإن كان مقصوداً يأتي دور القارئ في النّقد البنّاء والنّصيحة. ويمكن أن يفهم القارئ من إحدى الأفكار المطروحة ما لا يقصده الكاتب، فعندما يعلّق على تلك الفكرة يوضّح الكاتب ما قصد من كلامه، أو ربّما يعيد صياغة الفكرة بأسلوب أوضح ممّا كانت عليه. ويمكن أن يستحسن القارئ فكرة ما مهمّة في الموضوع المطروح، فيبدي استحسانه ويلفت انتباه باقي القرّاء إلى أهمّيّتها. هناك فوائد كثيرة لوجود مساحة يعلّق فيها القرّاء على ما يُنشَر في المواقع، لكن أن يصل الأمر إلى فكْر خاطئ نسعى إلى نشره من خلال التّعليقات، ونستغلّ هذه النّاحية لنشر دعوة فاسدة مخالفة تماماً لهدف المواقع الإسلاميّة الرّاقية، عندها تقف حرّيّة الرّأي الآخر، ومن حقّ إدارة الموقع عدم نشر هذا التّعليق أو تلك التّعليقات، والّتي يكون بعضها مقالاً كاملاً! وعدم السّماح لهذه الأفكار السّامة بالنّشر لا يعدّ أبداً رفضاً لحرّيّة الرّأي الآخر، بل على العكس، أرى ذلك هدفاً أساسيّاً من أهداف الموقع السّامي؛ وهو الحرص على نشر ما يخدم رسالته، وخلوّه من أيّة شائبة تحول دون وصوله إلى الهدف الّذي رسمه صاحب الموقع. فالباطل يجب أن يُوقَفَ عند حدّه.
مثال آخر: ربّما نستمع لبرنامج ديني تلفزيوني أو إذاعي، فنجد بعض المتّصلين المشاركين في البرنامج يطرحون فكرة ما، ويعطون رأياً خاطئاً حولها لكنّه يروق لهم، خاصّة في الأحكام الشّرعيّة - وتعلمون في هذه الأيّام كَثُرَ المفتون من أهل غير الاختصاص، وأصبح لهم آراء يجب أن يؤخذ بها، وأصبحوا أيضاً ينتقدون أهل العلم في فتاواهم!!!!! - ويتمادى ذلك المتّصل في طرح الفكرة الباطلة، ويجاهد من أجل إثباتها وترسيخها، لكن المصيبة ليست في ذلك، إنّما المصيبة في سكوت صاحب البرنامج، وعدم تعليقه بأيّة كلمة، سواء أثناء الاتّصال أو بعده، وعندما يتّصل شخص آخر لينتقد الخطأ ويبيّن الصّواب لا يسمحون له بمغالطة المتّصل السّابق، وربّما يقطعون الاتّصال، ثمّ نكتشف أنّهم يريدون إفساح المجال وإعطاء الحرّيّة للرّأي الآخر!!! وتكمن الخطورة هنا في أنّ كثيراً من المسلمين يتأثّرون ويتخبّطون بين هذا الرّأي وما يعاكسه، ويَحارون في معرفة الصّواب. برأيكم.. أتصل حرّيّة الرّأي الآخر إلى هذه الحدّ؟؟ بتنا نرى في كثير من المواقف أنّ صاحب الرّأي الآخر (الباطل بعبارة أخرى) هو الّذي يجب أن يتكلّم ويأخذ راحته في الطّرح، أمّا ذو الرّأي الصّحيح فعليه أن يسكت دوماً، ويكون مُلاماً إذا ما أراد إحقاق الحقّ، ويُعدّ إنساناً ضيّق الصّدر وغير حضاريّ؛ لأنّه - برأيهم - يريد تقييد حرّيّة الرأي الآخر.
لا بدّ أن يعلم أصحاب الرّأي الآخر حدودَ الرّأي الآخر والمعنى الحقيقيّ له؛ كي يحتفظوا بآرائهم لأنفسهم، ولا بدّ أيضاً أن يعرف أصحاب الرّأي الصّحيح حدودَ الرأي الآخر؛ لِئلا تسيطر عليهم الفكرة السّاذجة بإفساح مطلق الحرّيّة للباطل، فالحقّ يبقى حقّاً، وعلينا ألا نفسح المجال للآخرين بإحالته باطلاً من خلال استغلال بعض المصطلحات الّتي بات استخدامها في كثير من الأحيان بغير محلّه.
كلّ ما سبق ذكره يهون طالما أنّ الرّأي الآخر صادرٌ عن أناس عاديّين، لكن للأسف هذا المصطلح مُستَغلٌّ أيضاً من قبل بعض من يَظهرون اليوم باسم (العلماء) ليسترسلوا في إعطاء الفتاوى ((البــااااااطلة)). أوَعلينا هنا أيضاً السّكوت وإطلاق مصطلح "حرّيّة الرّأي الآخر" على ما يخالف القرآن الكريم والسّنة النّبويّة المطهّرة؟؟!!! هنا بالّذات وفي أمور الدّين الّتي لا مجال أصلاً لإبداء الرّأي فيها علينا أن نبيّن الحقّ كي لا يأخذ الباطل في الانتشار (وبعبارة أدقّ: كي لا تتوسّع رقعته أكثر من ذلك!)، وخاصّة أنّ (أهل العلم) هم أهمّ مصدر ثقة للنّاس، ويجب ألا تُمنح هذه الثّقة إلا لمن يستأهلها.
يجب أن تبقى فكرة "حرّيّة الرّأي والرّأي الآخر" محصورة بأمور خارجة عن الثّوابت، أمور تستحقّ أن يكون فيها رأيان قابلان للطّرح معاً، لأنّ هذا المصطلح - برأيي - موجود للاستفادة من تعدّد الآراء وتنوّعها، ونسأل الله أن يلهمنا وإيّاكم صواب الرّأي والقول والعمل.
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
3441 |
|
|
تاريخ
النشر: 13/11/2010 |
|
|
|
|
|
|