حوار في (التزكيــة) مع الداعية الشيخ (محمد عدنان السقا) : القسم الثالث
بقلم : ريم إيزولي
الجزء الثالث من مقابلة الشيخ (محمد عدنان السقا) حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
س . ما الطريقة المثلى ليصبح فيها التصوف علماً متداولاً بين الناس فلا يغفلوا فريضة التزكية وجانب الإحسان من الدين ؟
ج .الله I أمرنا بأن نكون ربانيين وذلك في قوله I: ] وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ [ [آل عمران : 79], ومن تعريف الربانية أنها } الأخذ بتعاليم الإسلام كله بتوسط واعتدال, وبدون أن يطغى جانب على جانب {, وقد سمى الإمام أبو الحسن الندوي / التصوف بالربانية في رسالته } ربانية لا رهبانية { تحدث فيه عن التصوف الصحيح بمنظار الإسلام وأجاد وأفاد.
ولا يقوم بهذا الدور محبٌ مغرقٌ في التصوف ولا متجنٍّ متعفف؛ لأن كلاً منهما ينظر بعين واحدة, وعلماء الأمة هم المأهلون لهذا الدور وفقاً للحديث وتطبيقاً له: ) يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (.
ولنا أملٌ في القناةٍ الجديدة } الصُّوفِـيَّـة {, أن تقوم بهذا الدور باختيار أهل الاعتدال والتوسط الذين ربى الإسلام كل جوانبهم, ولعل هؤلاء تناط بهم مثل هذه المسؤولية, ولا أعتقد أن فرداً واحداًً يمكن أن يقوم لوحده بهذه المهمة، لأن العمل الجماعي أبعد عن الخطأ, و ) يد الله مع الجماعة (.
س . قلت: } أهل الاعتدال والتوسط الذين ربى الإسلام كل جوانبهم{, ممكن أن تشرح العبارة أكثر؟
ج . الإنسانُ كيانٌ له جانب فكري يحتاج إلى غذاء العلم, وله جانبٌ عاطفيٌ يحتاج إلى غذاء الروح, وله جانبٌ ماديٌ يحتاج إلى متطلبات الحياة السعيدة. ولكل جانب إمداداته, فالعقل غذاؤه علم صحيح في كل مناحي الحياة ولا أقصد العلم الديني فقط.
والجانب العاطفي غذاؤه نوافل طاعات وأنوار وأذكار، ولا بد أن يقيد هذا بالضوابط الشرعية لأن العاطفة من صفاتها الانسياح والاتساع اللا محدود, ومن جملة جنودها الخيال الذي قد يجنح. يراجع في هذا الجاني كتاب الجانب العاطفي في الإسلام للشيخ محمد الغزالي. يشرح فيه بعض حكم ابن عطاء الله السكندري.
والروحانية غذاءٌ جميل يسعد صاحبه ولكنه خطر إذا ازداد عن الحد فقد ينقلب إلى شطحات وإلى بعض التجاوزات، وهذا ما يفسر أسباب الشطح عند بعضهم لذلك لا بد أن تقيد هذه بضوابط شرعية.
فحسبنا في غذاء الروح حديث النبي r عن ربه U: ) ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه (, وما يعضد ذلك المعنى من أحاديثَ عن النبي r. وإن دمعة عين خاشعة يمكن أن تروي ألاف الظامئين.
وأما الجانب المادي في الإنسان فهو بحاجة إلى أخذٍ بالأسباب واتساعٍ في الإمكانات, لأن الإنسان المسلم من جملة أهدافه إعمار الحياة وهذا يحتاج إلى الطاقات المادية والمعنوية.
س . الحديث الذي ذكرتموه: "ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه", يتخذه العديد من الغربيين دليلاً في شبهة التجسيم, ويقولون أن هاهنا تشبه المسيحية الإسلام وهذا دليلنا من الحديث, ما قولك؟
ج . لا يصح للإنسان أن يفهم شيئاً إلا ضمن مصطلحاته, وضمن المعايـير التي اختص بها أرباب هذا الشأن. وقد ذكر شراح الحديث لهذا الحديث معانٍ عدة منها: أن الإنسان المحبوب عند الله U يستمد كل قواه من الله I، حيث أمده الله I بقوته فستر ضعفه, وأمده بغناه فستر فقره.
ومن هذه المعاني: أن جوارح الإنسان المحبوب عند الله U لا تسير إلا ضمن ما يرضي الله Y فلا يتصرف عن هوى نفس ولا لإثبات ذات, فهو إذا تحرك ونشط فكل نشاطاته قد اتجه بها إلى الله، لأنه هو الممد له بهذه القوى. ويقاسُ على ما ذكر في الحديث بأنه يتكلم لله I ويسمع لله U ويوجه لله Y ويأخذ لله I ويعطي لله U فلم يبقِ منه حبُ الله Y حظاً لنفسه؛ أي أخلص فاستُخلِص وأقبل فَقُبِلَ، وطَرَقَ الباب فَفُتِحَ له، ولوح له بالوصل فلم يتوانى أن قال: لبيك اللهم لبيك.
أما ذكر القرآن الكريم: ] إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [ [ الأنفال : 65], فإذا ضوعفت قوى الصابرين ألا تضاعف قوى المحبين !!؟ ) وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت يده (, ليس اليد بمعنى الجارحة, يعني : كنت قوته أي أعنته بقوتي فهو يتحرك لا بقوة نفسه الضعيفة وإنما بالقوةِ التي مُنِحت له.
س . قلت: ) العاطفة من صفاتها الانسياح والاتساع اللا محدود, ومن جملة جنودها الخيال الذي قد يجنح (، هل الضوابط هي الطريقة؟
ج . لا . الطريقة هي السبل التي تؤدي إلى هذه السعادة الروحية وعمادها: } التوبة, المجاهدة, الذكر, المربي, الصحبة, العلم الشرعي {, وهذه كلها تحتاج إلى ضوابط شرعية, فالفقه هو الذي يحكم على كل هذه القضايا. ومن هنا قال الإمام مالك: } من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق {, أي مال وخرج عن الحد. ولذلك شَرَطَ الصوفية في المربي أن يكون عالماً، وأن يشهد له علماءُ عصره.
س . كيف نضبط منافذ القلب التالية: الأُنس, الوَجْد, الغَلَبَة؟
ج . الأنس: لا يصح أن بقصد الإنسان أنساً يعزله عن الأمة ويمنعه عن الإفادة والاستفادة, ولذلك فالأنس حالة قلبية داخلية وليست سلوكاً يقتضي العزلة عن الناس, وقد ذكر ابن الفارض: هذه الحالة الوجدانية معبراً عن حالة أنس بلغت الذروة:
فلي بعد أوطاني سكونٌ إلى الفلا
|
|
وأنسٌ إلى الوحش إذ من الإِنسِ وحشتي
|
كان النبي r أشد الناسِ أنساً بالله I ولكن هذا لم يمنعه من الاختلاط بالناس ودعوتهم وتعليمهم فلا يصحُ أن يفهم الأُنس بمعنى العزلة الاجتماعية, وقد قالت رابعة العدوية ك في هذا المقام:
إني جعلتكَ في الفؤاد محدثي
|
|
وأبحت جسميَ من أراد جلوسي
|
فالجسمُ مني للجليس مؤانسٌ
|
|
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
|
وقال غيرها في هذا المعنى:
فإني إذا ما الليل خيم ستره
|
|
وفارقني نومي وحرمت راحتي
|
لجأت إلى أفناء روحك إنها
|
|
ملاذ لقلبي في ظلال السكينة
|
والأنس حالة من حالات الروح عندما تشعر بنفحات حب من تجليات ] يُحِبُّهُمْ [ [المائدة : 54], وبإشراقات انبعاثٍ من إشراقات ] وَيُحِبُّونَهُ [ [المائدة : 54], هذا التبادل بين حب ممنوح تقدم في الآية ] يُحِبُّهُمْ [ [المائدة : 54], حيث يستحث حباً ضئيلاً إذا ما قيس بالأول, من خلال هذا التبادل يكون هذا الأنس, قال أحدهم:
لهم في الدجى أنس بذكرك دائما
|
|
فهم في الليالي ساجدون وقوم
|
وبهذا الباب الأنس يمكن أن يراجع كتاب الرسالة القشيرية.
الوجد: هناك وجدٌ، و وِجدَانٌ، وتواجد. التواجد هو التصنع كالتباكي مقدمة البكاء, فإذا ازداد صار وجداً. فهي حالة واحدة تسمى في بدايتها تواجداً وأثناء سيرها وجداً وفي عمقها الأخير وجدانً.
والوجدُ حالة فيها حركة, فقد يتحرك الجسد من تحرك الوجد, ذكر ابن عابدين:
ما في التواجد إن حققت من حرج
|
|
ولا التمايل إن حققت من بأس
|
فقمت تسعى على رجل وحُق لمن
|
|
دعاه مولاه أن يسعى على الرأس
|
لما نزلت الآية الكريمة في غزوة بدر قبيل المعركة: ] سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [ [القمر : 45] , وثب النبي r في الدرع تعبيراً عن فرحه. إذاً فهي حالة فرح تملأ القلب, وقد يتحرك من خلال ذلك الجسد.
الغَلبة: قال أبو مدين t في الرسالة القشيرية يتكلم عن هذه الحالة:
وصن سِرنا في ذكرنا عن حسودنا
|
|
وإن أنكرت عيناك شيئاً فسامحنا
|
فإنا إذا طبنا وطابت نفوسنا
|
|
فحركنا ذكرُ الغرامِ تحركنا
|
الغلبة حالة روحية يضيق القلب عن تحملها، فإذا أدت إلى سكون أو إلى دموع أو إلى حالة صفاء كانت مفيدة. وكلما اتسع قلب الإنسان كلما حوى أنوار الذكر وجانَبَ الغلبة, ابتعدَ عن الغلبة. وربما تفهم الغلبة بأنها غلبة الأنوار في القلب فتأخذ بمجامعه وينعطف ويشتد في طلب الحق U, وقد قال أحدهم في هذا المعنى:
ودّعى الكونَ وجودي وانمحى
|
|
فإلى الحبيب توجهت نظراتي
|
أما أن يغلب الإنسان على عقله فهذا ليس من الكمال. وقد كانت أنوار الإيمان تسطع على قلوب الصحابة y ولكنهم ما خرجوا في تعبيراتهم عن حد شرعي, فالشرع هو الذي يضع حداً للغلبة إذا اشتطت.
وقد تسمى الغلبة عند البعض حالاً. وأهل التحقيق ينتقلون من الحال الذي يزول إلى المقام الذي يرسخ.
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
5006 |
|
|
تاريخ
النشر: 06/03/2011 |
|
|
|
|
|
|