wwww.risalaty.net


فلْـنعدْ أطـفالا


بقلم : دعاء الأصفياء

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والصلاة والسّلام على رسوله الكريم

 

 

دُنيـا

الطّفولة.. وما أدراك ما دنيا الطّفولة!! تلألأت سماؤها بنجوم البراءةِ والنقاء.. واكتست أرضها بحُلّةٍ نسيجُها الصّدق والصّفاء.. أمّا هواؤها فليس إلا نسماتِ حبٍّ وخير.. لا تشوبها ذرّةُ حسدٍ أو حقدٍ على الغير... في تلك الدّنيا نَبَتَتْ البراعم الّتي ندعوها أطفالا.. فملأت الكون أُنساً وبشراً وجمالا... وأجملُ ما في هذه البراعم أنّ جذورَها خلتْ من الشّرّ بكلّ معانيه.. فإذا ما دخلتَ عالمها أدخلتْ على قلبكَ السّرور، وأنْستكَ كلّ همٍّ تُعانيه... قد سكَنَتْها روحٌ زكيّة.. وملأتْ حناياها فطرةٌ نقيّة... فلا هي على التّفكير بالسّوء قادرة.. ولا حبّاً للإيذاء ضامرة...

        نعم. هذه هي براعم الطّفولة بما فيها من نفوسٍ طاهرة.. ونوايا صافيةٍ عاطرة... وما أجمل أن يُسقى جميعُها بماء الحبّ والخير، لتَكبَر وتترعرع، ويكبر معها خيرها الّذي وُجِد فيها مذ كانت جذوراً صغيرة، فتصبح وروداً تنثر في الجوّ شذاها.. وتملأ بعطرِها أرضَ دنياها وسماها...

        لكنّ إبليس اللّعين أبى إلا أن يعكّر طهرها.. فسعى جاهداً ليسقيَ ما استطاع منها بماء الشّرّ، ويسحب منها خيرها... وهذا هو السّرّ في عدم تحوّل البراعم كلّها إلى أزهار.. فكثيرٌ منها كبر وأصبح أشواكاً طبعها الإيلام والإضرار...

        أذكر منذ سنين، وعندما كنت إحدى أفراد دنيا الأطفال، كانت تردني أفكار بشأن الشّرّ وأهله، كنت أنظر إلى الشّاشة الصّغيرة، وأرى لقطاتٍ تعبّر عن الشّرّ وإيذاء النّاس لبعضهم.. والعراكات والشّجارات والمعارك الطّاحنة الّتي تجري بينهم... كنت أستغرب حينها! لماذا يُظهرون النّاس بهذه الصّورة البشعة؟؟ لا يُعقَل أن يكونوا في الحقيقة بهذا الظّلم وتلك الوحشيّة. لم أكن أعي ما يجري في عالم البشر، كنت أتصوّر أنّ الخلْقَ ديدنهم المحبّة والمشاعر الرّقيقة.. وما أدركت أنّ براءةَ الطّفولة وطبيعتها كانت تشكّل حجاباً يمنعني من رؤية الحقيقة...

        مع الأيّام وتواليها.. ومع تلاشي الطّفولة بأيّامها ولياليها... بدأ هذا الحجاب يشفّ ويتلاشى، مُسفِراً عمّا خلفه من قلوبٍ ملأ نبضَها شرٌّ دفين.. وعقولٍ شغل فكرَها مخطّطات لتدمير المساكين.. ونفوسٍ أكلتها نار الحسد لما رأتْه من نعمٍ لدى الآخرين... رأيتُ الشّرّ وما يجرّه من أهوالٍ وويلات.. مستحكماً طاغياً على مستوى أفرادٍ وجماعات... فهذا محبٌّ خُلُقَ الإيذاء ويراه من أوائل مسلّياته.. وذاك حاقدٌ على قَدَرٍ يعيشه فيجد في الشّرّ متنفّساً وهروباً من نكباته.. وآخر جنّ جنونه ممّن تفوّق وتألّق، بينما هو فاشلٌ في حياته.. ورابعٌ لا يعرف للرّاحةِ طعماً إلا إذا أنهك العالم وسيطر عليه، وجعله من ممتلكاته... شرٌّ وطمع.. حقدٌ وجشع.. لا عينٌ من نظرات الحسد ملّتْ.. ولا نفسٌ عن الخبثِ ولّتْ.. ولا لسانٌ عن سوء القول ارتدع وامتنع.. ولا قلبٌ عن ذنبه رجع، ولربّه خضع وخشع...

        هي حقيقةٌ نزلت على رأسي كالصّاعقة عندما خرجتُ من عالم الطفولة البريئة.. الغافلةِ عمّا يدور حولها من أفعالٍ دنيئة... لماذا أعرضنا عن أنهارٍ شكّلتْها قطراتُ المحبّةِ والإخاء؟! لماذا انغمسنا في مستنقعات الغشّ والكذب والظلم والضّوضاء؟! لمَ لا نجدّدُ قلوبنا، فننفض عنها ما علقَ بها من غبار، ونغسل ما بداخلها من أوزار؛ لتعودَ قلوباً نقيّة.. طاهرةً من الشّرّ طفوليّة؟؟ لمَ لا نسعى لمعالجة هذه القلوب العليلة ممّا ملأها من آفاتٍ وأدواء.. قبل أن تتفشّى فيها الأمراض فلا نجد لها أيّ دواء؟؟؟

        لا بدّ أن نعرضها على الطّبيب قبل فوات الأوان.. لا بدّ أن نتداركها قبل أن تُميتَها الذّنوب فتحرمَها من النّجاةِ والغفران... نعم. لا بدّ من طبيب.. وطبيب القلوب خالقُها... فلْنذهبْ بقلوبنا إلى خالقها.. ولْنَمْثُلْ بين يديه طالبين من جلاله علاجاً يخلّصها من مرضها... لنعدْ إلى كتاب الله، ولْنكتشفْ أنّه حقّاً شفاءٌ لما في الصّدور... لنعدْ إلى سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، ولنسرْ على نهجه ليكون شفيعنا يومَ النّشور... لنعدْ إلى فطرة الله الّتي فَطَرَ النّاسَ عليها، لنتخلّصْ من شرورنا، ولْنعدْ براعمَ الخير، فما أجمل أن ننموَ من جديد؛ لنخرجَ من دنيا براعمِ الطّفولة.. إلى دنيا الورود الجميلة... لنعملْ على أن نكون جميعاً وروداً خيّرة، فوالله إنّها خيرٌ من الأشواكِ وأجمل! الورود لا ينبعث منها إلا رائحةُ العطور.. بينما الأشواك لا تنشر إلا الألم، فلا تلقى بعدها إلا الابتعاد والنّفور.. وليس ذلك فحسب، إنّما مآلها القطع والفناء، والبقاءُ للزّهور...