wwww.risalaty.net


التفسيرُ الحرفيُّ للكتاب المقدّس ومَأْساةُ فِلَسطين..


بقلم : الأستاذ بشار بكور

 

 
يقول القسيسُ الكاثوليكيُّ السويسريّ هانز كنغ: لا سلامَ بين الأمم ما لم يكن هناك سلامٌ بين الأديان..
نعم، وأزِيد فأقول: لا سلام بين الأديان ما لم يَكُفَّ أتباعُ الأديان عن استخدام أديانهم لمصالحهم، و عن لَيِّ أعناقِ نصوص الأديان المقدّسة لتحقيق مآربهم، وإنجاز مخططاتهم.
لا شكّ أن الدين كان و ما يزال قوةً نَفَّاذةً، بعيدةَ الغَوْر، عميقةَ الأثر، تضرب بجذورها عميقاً في نفوس أتباعها ومعتنقيها. و إن للأديان لقدرةً عجيبة في صَوْغ نفوس المؤمنين بها، وتوجيهها حيث شاءت. فأنت تسأل ذاك الذي يتبرع بماله كلّه أو جُلّه: ما الذي يدفعك إلى التخلي عن ثروةٍ أنفقت فيها عمرك ووقتك في جمعها وتحصيلها، و ها أنت في لحظة تبدّدها هنا وهناك؟ فيجيبك بلسان اليقين الذي لا يعترضه شكٌّ: أبتغي الأجرَ من الله، وأنقل هذا المال إلى الآخرة لأجده هناك. و تسأل إنساناً آخر على وَشْك التضحية بنفسه: لِمَ تضحِّ بنفسك، وهي أغلى ما في الوجود؟ فيجيبك إجابة الواثق الموقن: والله إنّ ديني لأغلى منها.
هذا هو شأن الدين مع أبنائه، وهذه هي هيمنته على نفوسهم وأفئدتهم. لكن الدين-يا للأسف- سلاحٌ ذو حدّين، فكما أنه يقود صاحبَه إلى خير عميم، وسعادة غامرة، ونشوة بهيجة، فمن الممكن-عندما يساء فهمُه و تُغتَصب ألفاظُه و تُحَرَّف معانيه وتختطفه السياسةُ- أن يستحيل إلى أداة مدمِّرة، لا تقلُّ ضحاياها عن ضحايا القنابل و المدافع. وإن خير مثال على ما ذكرتُ هو المآسي التي تجرّع مرارتَها-وما يزالون- إخوتُنا في فلسطين منذ أكثرَ من نصف قرن. إن أناساً هُجِّروا، وآخرين قُتِلوا، وبُرآءَ سُجِنوا، وأطفالاً يُتِّموا، ومنازالَ دُمٍّرتْ، وحاراتٍ برمّتها أُخلِيتْ، ونساءً رُمِّلتْ، كل ذاك وأزْيد ارتُكِب باسم الدين، وصدّقه الربُّ لا بل باركه لا بل أمرَ به، هذا والله عَجَبٌ وفوق العجب!
قِدَماً أراد الأصوليون اليهود- و كذلك أَراد إخوانُهم من اليمين المسيحيّ في أمريكا-أن يكون لهم موطىءُ قدَمٍ ثم منزلٌ ثم مدينةٌ ثم دولةٌ في فلسطين، و أرادوا أيضاً أن يبنوا هذه الدولةَ على أساس ديني، مستقىً من الكتاب المقدّس، ليكون غطاءً لاهوتياً، يسوّغ تصرفاتِهم الإجراميةَ في أرض فِلَسطين وشعبها. وقد تمّ لهم-وا أسفاه- ما أرادوا واتّسق لهم ما أمّلوا، حيث طَوّعوا نصوصَ الكتاب المقدّس لغايات رسموها، وأهداف نصبوها، فاقتحموا هذه النصوصَ من بَوّابة التفسير الحرفي و النبوءات، وألبسوها لَبوساً صنعوه بأنفسهم لأنفسهم.
 وقد بنى الأصوليون اليهود و الصهاينة المسيحيّون على هذا التفسير و التنبؤ بأحداث مستقبليةٍ عدداً من الاعتقادات التي روّجوا لها ونشروها بين أمم الأرض، و ضللوا بها عامة الناس و أقنعوهم بطريقة أو بأخرى أنها حقائقُ لا مِريةَ فيها، ولا تقدح فيها الظِّنَّةُ بحال. وها هي بعض تلك الاعتقادات:
-   اليهود شعب الله المختار. يقول الحاخام كوهين: يمكن تقسيم سكان العالم إلى قسمين: إسرائيل من جهة، و الأمم الأخرى مجتمعة من جهة أخرى. فإسرائيل هي الشعب المختار. و هذه عقيدة أساسية. [1]
-   القدس (مدينة داود) و جبل صهيون. وبتعبير آخر (المدينة على الجبل) وهو من النصوص المقدّسة التي تشير إلى القدس، وبوجه خاص القدس الجديدة على تلة صهيون التي سوف يحكم منها المسيح مملكتَه الألفية الأرضية، ومنها سوف ينتشر النور إلى أرجاء الدنيا كلّها.[2]
-       إعادة بناء هيكل سليمان. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من هدم المسجد الأقصى.[3]
-   الأرض الموعودة.«سأعطي نَسْلَكَ هذه الأرضَ من وادي العريش إلى النهر الكبير، نهر الفرات.» (سفر التكوين: الإصحاح 15، الآية 18). يقول موشي ديان:إذا كنا نملك التوراة ونعتبر أنفسنا شعب التوراة، فمن الواجب علينا أن نمتلك جميع الأراضي المنصوص عليها في التوراة. [4]  و يقول موردخاي نيسان، أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في الجامعة العبرية في القدس،: منذ بداية فجر التاريخ اليهوديّ، أقام الاتصالُ بأرض إسرائيل مبدأً وهو أن وجود غير اليهود في البلد هو من الناحية الأخلاقية والسياسية أمرٌ لا صلة له بالحق الوطني لليهود في استيطان الأرض وحيازتها... يصرح الكتاب المقدّس بالحق اليهوديّ بغض النظر عن الوجود غير اليهوديّ. وفيما بعد بفترة طويلة، فصّل حكماءُ الكهنة الوعدَ الأبويّ و بيّنوا المبدأ الآتي:... الإقامة في الأرض هي المقام الأول عند اليهود، وليست مقيدة بحالٍ، فضلاً عن أن تلغَى من قِبَل غالبية السكان غير اليهوديّة، في أي جزء محدد من الأرض.[5]
الحتمية التاريخية و خُطة الله للدهر. يرى المؤمنون بالنبوءات المستقاة من بعض نصوص أسفار العهدين القديم والجديد أن الله وضع خُطةً سوف يتحقق فيها الفصل الأخير من هذا الكون، و الله -كما يعتقدون- قد وضع خُطتَه للكون وَفقاً لعلاقته بإسرائيل.فإسرائيل بسبب خطاياها ستخضع لتسلّط أربع أمم، الواحدة تلو الأخرى، وعندما تكتمل أيام الأمميين سيُصدر أحد ملوكهم قراراً بإعادة إعمار القدس. وبعد ذلك بتسعة وستين أسبوعاً سوف يعود المسيح إلى المدينة المقدّسة لكن شعبه يرفض التصديق به. وفي الأسبوع السبعين، يحاول حاكم شرير القضاءَ على اليهود، لكن المسيح يعود ليهزمه و يجلس على عرش داود.[6] والأحداث الأخيرة في خطة الله هي كالآتي:
(1) الحدث الرئيسيّ: الارتقاء (Rapture) حيث يظهر المسيح في الغيوم، فيصعد المؤمنون به إلى السماء: الأموات فالأحياء. و هؤلاء هم المؤمنون بالمسيح الذين وعد المسيح أن يعود  فيظهر في الغيوم لكي يأخذهم إلى نفسه.
(2) الحدث الرئيسيّ الثاني هو المحنة الكبرى (Tribulation)وهي فترة تمتد سبع سنوات يحكم أثناءها المسيحُ الدجال العالمَ من الهيكل في القدس، وتحدث في هذه الفترة آلامٌ ومعاناة ومآسي كثيرة. وفي آخر المحنة يأتي المسيح في مجده أو جلاله ويقود جيش القديسين والمؤمنين، ويهزم جيوش الشيطان: جيوش الشرّ والمسيح الدجال، في معركة مجيدو(Armageddon) في فلسطين قرب حيفا.
(3)ثم بعد ذلك تبدأ الفترة الألفية (Millennium) وهي فترة ألف عام يحكم خلالها المسيحُ العالمَ من الهيكل حيث يقعد على العرش، ويسود العالمَ السلامُ والمودة.[7]  وإن كنت لا تعلم فاعلم أن المسيح لن ينزل النزولَ الثاني إلا إذا اجتمع اليهودُ في فلسطين، فوجوب اجتماعهم، كما يُزعَم، أمرٌ يحتّمه الكتاب المقدّس قبل مجيء عيسى، الذي ينتظره الملايين من المؤمنين. و كلُّ ما من شأنه أن يعيق أو يعرقل نزولَ المسيح فليذهب إلى الجحيم.
إن موقع إسرائيل في خطة الله للدهر كموقع الرأس من الجسد، وجلّ الأحداث التي تجري في الشرق الأوسط يتم تفسيرها وقراءتها وَفقَ هذه النبوءات.[8]
لكن طبعاً هناك الكثيرون من رجال الدين المسيحيّ والباحثين والمفكرين في أمريكا وغيرها يعارضون بقوة هذه التخرصات والأكاذيب التي يروجها الأصوليون اليهود والصهاينة المسيحيّون.
من هؤلاء الدكتور ج. كالفن كين، الرئيس السابق لقسم الدراسات الدينية في جامعة سانت لورنس في نيويورك، حيث يقول: إن النصوص الكتابية التي ترد فيها هذه النبوءاتُ المفترَضة قليلةٌ جداً، كما أن نظرةً فاحصة لها تدلّ على أنها إما غامضة جداً في دلالاتها وبالتالي غير مقنعة، أو أنها نبوءات لأحداث وقعت بالفعل بعد كتابتها بوقت قصير، أو أنها انتُزِعتْ من سياقها و أعطيِت دلالاتٍ ليست واردة أبداً في ذلك السياق.[9]
يعلق الدكتور فؤاد شعبان على هذا الكلام قائلاً: وهذا بالضبط هو ما نراه في مواعظ وكتابات الأصوليين الأمريكيين من مسيحيين ويهود حين يلوحون بالكتاب المقدّس ويرددون هذه النصوص النبوئية على مسامع الملايين من المؤمنين الذين لا يتسنّى لهم التحقق من صحتها أو دقة تفسيرها. يصف الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي هذا السلوك بـ ‹هرطقة تشكّلت من القراءة الحرفية الاصطناعية لكلام منزَّلٍ، بهدف جعل الدين أداةً للسياسة، بإضفاء القدسية عليها... إنه مرض مميت يصيب نهاية القرن، وهو ما عرّفتُه سابقاً باسم الأصولية›.[10]
إن التمسّك بالقراءة الحرفية للكتاب المقدّس ذو نتائج وخيمة على الشعب العربي عامة، والفلسطينيّ خاصة، من جميع النواحي: الدينية والإنسانية والاجتماعية  والسياسية والاقتصادية. إن اليمينيين المتطرفين في الولايات المتحدة وأتباعهم عندما يرون كل هذه المذابح والجرائم التي تجري في فلسطين، لا تتحرك فيهم مشاعر الرحمة تجاه الضحايا، و إذا فتشت في قلوبهم فلن تجد فيها أثراً من الحزن أو الشفقة أو الحرارة التي توجد عادة عند سائر البشر لدى رؤيتهم لمثل تلك المشاهد الموجعة، التي تترك في الصدر حَزازةً، وفي القلب غُصّةً. يقول الدكتور فؤاد شعبان: فلنتصوّرْ ماذا يدور بذهن المؤمن المسيحيّ في أمريكا من أتباع الكنائس المسيحيّة اليمينية عندما يشاهد فيلماً جميلاً مثل فيلم « أرض الله» يسرد فيه القُسُّ المعمدانيُّ الشهير بيلي غراهام وصْفَ الأماكن المقدّسة في طول فلسطين و عرضها مستشهداً في كل منعطف بالنصوص المقدّسة التي تنبأت بما حدث و يحدث في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، ومؤكداً أن هذه أرضُ الله أعطاها لشعبه المختار، و أن ما حدث هو معجزة تحققت بها إرادة الله.[11]
إن المسيحيّة و اليهوديّة قد تمّ استغلالُهما استغلالاً بشعاً، لتحقيق أطماع و أهداف مستقبلية في فلسطين. وإن هذين الشريعتين السماويتين بريئتان كل البراءة من تلك الآراء و الاعتقادات التي ألصقت بهما، من جرّاء القراءة الحرفية  والتصرفات التحريفية التي عبثت بهما أيّما عبث.
يقول الأستاذ محمد فاروق الزين: بعد مرور قرابة ألفي عام على رحيل يوحنا، واستناداً على "رؤياه"، لا يزال المسيحيّون الأصوليون في نصف الكرة الغربي مقتنعين مع أتباعهم بأن نشوء إسرائيل في فلسطين كان مقدمة حتمية لا بدّ منها لتحقّق المجيء الثاني و نهاية التاريخ، فالكثير من الأمريكيين -الذين كانوا في السابق معادين لليهوديّة بحجة أن اليهود رفضوا المسيح وقتلوه بزعمهم- تحوّلوا إلى أنصار متحمّسين لليهود ولإسرائيل نظراً للدور المفترض أن يلعبه اليهود في خطة المجيء الثاني و تحقق النبوءات. يمكن تلخيص العقلية المسيحيّة الأصولية الغربية بإيجاز بالعبارة التالية: لا يمكن للمسيح أن يعود ما لم تكن هناك إسرائيل يمكنه العودة إليها. [12]
 


[1] في كتابه "التلمود"، نقله روجيه جارودي في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" ص 54. نشر دار الشروق- القاهرة، ط 1، 1998.
[2] من أجل صهيون، ص 81. نشر دار الفكر- دمشق 2003. وانظر أيضاً كلاماً مهماً بهذا الصدد في ص 123-131.
[3]  راجع قصة الهيكل في كتاب الدكتور حسن ظاظا "أبحاث في الفكر اليهوديّ" ص 45-54، نشر دار القلم-دمشق 1987.
[4] نقله جارودي ص 41، عن صحيفة جيروساليم بوست، 10/ آب/ 1967.
[5] نقله المفكر نعوم تشومسكي في كتابه "مثلث الموت" ص 444 ، نشر بلوتو برس-لندن 1999. عن جيروزالم بوست، كانون الثاني. 18، 1983.
[6] من أجل صهيون، ص 321.
[7] من أجل صهيون، ص 321.
[8]  على سبيل المثال، يرى الكاتب المتطرف هال ليندزي في كتابه "كوكب الأرض المنقرض العظيم" أن تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 و استعادة مدينة القدس عام 1967 هما علامتان هامتان على اقتراب الساعة. انظر: من أجل صهيون، ص 350. وقف على أمثلة أخرى في ص 351 وما بعد.
[9] من أجل صهيون، ص 322. باختصار وتصرف يسير.
[10] من أجل صهيون، ص 315. و راجع فيه كلاماً مهماً للبابا شنودة في تكذيب هذه الادعاءات، ص320.
[11] من أجل صهيون، ص 316.
[12]  المسيحية و الإسلام و الاستشراق، ص 262، نشر دار الفكر- دمشق ط 3 2003.