wwww.risalaty.net


الرســول القـــدوة


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

 

خطبة الجمعة بتاريخ 3/2/2012
في جامع العثمان بدمشق
 
الحمد لله ثم الحمد لله.. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.. يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.. سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.. وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله وصفيُّه وخليلُه.. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على هذا النبيّ الكريم صلاة تنحل بها العقد وتنفرج بها الكرب وتقضى بها الحوائج وتنال بها الرغائب وحسن الخواتيم ويستقى الغمام بوجهه الكريم، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعدُ فيا عباد الله: أُوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله تعالى.. وأحثُّكم على طاعته والتمسك بكتابه، والالتزام بسنَّة نبيّه سيدنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلَّم ومنهاجه إلى يوم الدين..
يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة:128]
أيها الإخوة المؤمنون: لم يذكر الله سبحانه وتعالى أحداً من الأنبياء بصفاته إلا سيدنا محمداً صلَّى الله عليهِ وسلَّم فقد خصّه في القرآن الكريم بهاتين الصفتين: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ فكان النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم رأفة ورحمة لهذه الأمة.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]
وقال رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم: "أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ" فرحمة الله سبحانه وتعالى شملتنا بأن كان نبينا نبي الرحمة وأن كانت رسالته السماوية رسالة الهداية والرأفة، وأن كانت بعثته عليه الصلاة والسلام تدعو إلى التراحم فيما بين الخلق فيقول صلَّى الله عليهِ وسلَّم: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وهكذا ندرك عظمة هذا النبي الكريم الذي اختاره الله سبحانه وتعالى خاتماً للأنبياء وسيداً للرسل عليهم الصلاة والسلام، وسرّ هذه العظمة أنه من هذه الأمة نفسها، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ، فلم يكن النبي عليه الصلاة والسلام من خارج بلاد العروبة، ولم يكن من خارج الجزيرة العربية، ولم يكن النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم من أسرة هجينة بل كان قرشياً هاشمياً ينتمي إلى أجداده من بني عبد مناف، وكانت ولادة النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم ولادةً شرعيةً صحيحةً فقد عبّر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "وُلِدْتُ من نكاح ولم أولد من سفاح".
ونحن نقبل على ذكرى ولادة سيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم التي تترك بصمةً في حياة كل مسلم، فتحرّك انتماءه، وتجدد الانتماء والولاء لسيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم.. هذا الولاء وهذا الانتماء إنما من أسراره حب النبي عليه الصلاة والسلام لأتباعه من هذه الأمة فقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم قال:"وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانِي، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي قَوْمٌ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ"..
إنما هي إشارة أيها الإخوة إلينا.. نحن الذين آمنّا بسيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم ولم نره، إنما رأينا آثاره، رأينا سنته، رأينا شريعته، فحريٌّ بهذه الأمة أن تكون متبعة لهذه السنة، وحري بهذه الأمة أن تفقه بأن ذكرى ولادة هذا النبي العظيم إنما هي تجديدٌ لبيعته، إحياءٌ لسيرته، التزامٌ بتشريعاته، وتمسكٌ بأخلاقه التي فاق بها الأمم على الإطلاق.
أيها الإخوة المؤمنون: هذا الأمر يقودنا إلى حقيقة ألا وهي أن العظماء إنما يقدّرهم العظماء.. فالأمة العظيمة هي التي تقدر عظماءها.. الأمة العظيمة التي تعرف قدر نفسها هي التي تقدر عظماءها فما بالكم بسيد العظماء وخاتم الأنبياء وسيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم.. وإن التقدير والتعظيم لهذا النبي الكريم لا يعني أن نكتب رايات أو أن نُدبِّج عبارات أو أن نلقي نظماً أو أن ننشد أناشيد أو أن نقيم احتفالات.. هذه مظاهر فرح ولا تعد من التقدير الحقيقي لهذا النبي العظيم.. إنما الأمة التي تقدر عظماءها هي التي تحيي شريعته، هي التي تقيم سنته، هي التي تتمسك بأدائه، هي التي تجعل من هذا النبي العظيم قدوة لها لسائر شهورها على كافة المستويات، ومختلف الأحوال الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية والعاطفية في كل الوجوه.. ينبغي أن يكون النبي سيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم قدوةً لنا في كل هذه الأمور..
نعم أيها الإخوة: هناك في المجتمع من يقدر ويعظم بشراً مثله: يعظم نجوم الرياضة أو نجوم الفن أو نجوم السياسة أو نجوم الاقتصاد ويعرف عنهم كل تاريخهم ويقرأ في دقائق تفاصيل حياتهم، ويبحث ويعنى يهتم ويعنى في كل ما يتعلق بهم.. لكن من باب أولى أن يكون الإنسان المؤمن المحب لسيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم أن يعنى في كل تفاصيل حياة النبي عليه الصلاة والسلام، من ولادته إلى نشأته، إلى شبابه وفتوته، إلى بعثته وقوته، إلى مغازيه وفتوحاته، إلى وفاته وآثاره عليه الصلاة والسلام.. وأن تكون هذه المعاني كلها سبباً من أسباب النهوض لهذه الأمة لكي يكتب لهذه الأمة التمكين في الأرض..
نعم أيها الإخوة: السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يُعنوْن بحياة النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم صغاراً وكباراً حتى أنهم كانوا يعلمونهم مغازي رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم.. يقول سيدنا علي بن الحسن رضي الله عنهما: كنّا نُعلَّم مغازي رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم كما نُعلَّم السورة من القرآن. يعلمون المغازي في الزمن كذا، وفي السنة كذا غزا الرسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم غزوة كذا وكان معه من العتاد كذا ومن الخيل كذا وقد حصّل من الغنائم كذا.. وهكذا يزرعون في نفوس شبابهم وأبطالهم حياة النبي عليه الصلاة والسلام..
يثقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عن الجميع قال: كان أبي يعلمنامغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعدها علينا (يذكرها بتاريخها وأرقامهما وحوادثهما)، ويقول: يا بني هذه مآثر آبائكم (تاريخهم المشرف) فلا تضيعوا ذكرها..
.. إذا لم يكن لدينا احتفاء واحتفال بغزوات النبي وفتوحاته فبماذا نحتفل؟ وبأي شيء نباهي الدنيا؟ إن فتوحات النبي عليه الصلاة والسلام كان فيها من سمو الأخلاق ومن المعاني العظيمة ما يجعلها منهج حياة لنا فكانت الصلوات لا تُضيّع في أثناء الفتوحات، وكانت الحقوق لا يعتدى عليها في أثناء الغزوات، وكانت كل المعاني السامية تتحقق في هذه الغزوات.. ولذلك كان السلف الصالح حريصين على أن يربّوا أبناءهم على فقه مغازي رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم.
يقول الإمام الزهري رحمه الله يقول : في علم المغازي علم الآخرة والدنيا..
فقه الدنيا أحكامٌ في السياسة، في الاقتصاد، في الاجتماع، في التربية تستنبط من غزوات النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم...
ولعلنا أيها الإخوة نضرب لكم بعض الأمثلة في سياق هذه الخطبة عن المناهج التي تركها رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم لأصحابه في تلك الغزوات.. وذلك من خلال هذه الآية الكريمة التي جعلها الله تعالى منهج حياةٍ لنا: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]
يا أيها الإخوة: أُعطيت أمة سيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم في هذه الآية ما لم تُعطها أمة أخرى.. إنه مقام القدوة، درس عظيم: كيف يقتدي المسلمون بنبيهم وكيف يجعلون من سيرة حياته منهجاً لهم.. فإذا أقبل المسلمون على قراءة السيرة النبوية بتفاصيلها وتحليلها والإفادة من معانيها كان ذلك أحد أسباب نهوضهم من كبوتهم، فالأمة قد كبت.. بل وقعت في كبوات عبر التاريخ ولا مجال أن تنقذ نفسها إلا إذا أعادت قراءة سيرة النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم وشخَّصت مقام القدوة تشخيصاً دقيقاً على كل المستويات..
نعم أيها الإخوة: إن الاقتداء بسيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم وقراءة سيرته النبوية الشريفة إنما يحقق لنا من الهداية محبة هذا النبي العظيم، المحبة الصادقة الصحيحة لا محبة اللسان والادعاء.. فنحن في زمن كثرت فيه الدعاوى.. وما أكثر أن نفدي فيه رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم بأرواحنا لكن في اللسان فقط وليس في العمل.. في التعبير، في تورُّد المُهج، في ذرف الدموع... إنما في الواقع العملي نجد أننا مقصرون كثيراً عن ما كان عليه سلفنا الصالح.. نعم أيها الإخوة..
وأبدأ في بيان معاني القدوة على كافة المستويات.. أبدأ بالدعاة والعلماء الذين هم قادة الرأي في المجتمع، الذين يعلمون علم رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم..
إن اقتداء العلماء بسيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم ومعرفة سيرته النبوية يحقق لهم أول ما يحقق الفهم الدقيق لكتاب الله تعالى فيعرفون من خلال سيرة النبي عليه الصلاة والسلام كيف كان يتصرف في الأزمات، كيف كان يتصرف عند الملمات والشدائد فما أحد مرّ بشدائد وصعوبات كما مرّ بها النبي عليه الصلاة والسلام.. فلم يخرج عن طوْره ولم يفقد توازنه ولم ينسب الناس إليه العيب، ولم ينتقده الناس في تصرفاته... بل كان عليه السلام هو القدوة ولما جاء خباب بن الأرت يشكو إليه حال أصحابه وما تعرضوا إليه من الأذى.. ما كان من رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم إلا أن ظهر واثقاً بالله تعالى وأبدى لأصحابه البشارات، بيّن لهم البشارات تلو البشارات، فقال عليه الصلاة والسلام "لقد كان من كان قبلكم ليمشطون بمشاط الحديد ما دون اللحم والعصب، لا يصرفهم هذا عن دين الله تعالى، وليتمن الله هذا الأمر وإن الراكب ليمشي من صنعاء إلى حضرموت لا يخش إلا الله والذئب على غنمه"..
نعم أيها الإخوة: إن قراءة العلماء للسيرة النبوية تجعلهم أكثر معرفة بعلوم القرآن الكريم والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد وتجعلهم أكثر فهماً لسنة النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم ومناهج دعوته عليه الصلاة والسلام فقد كان النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم مميزاً في مناهج الدعوة: دعا إلى الله سبحانه وتعالى ثلاثة أعوامٍ سراً ولم يدخل في الإسلام إلا أربعون رجلاً وامرأة واحدة.. لم يجزع.. لم يجد ضيقاً في صدره من هذا الأمر، بل صبر إلى أن نزل عليه القرآن الكريم: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر:94].. وقال الله له بعد ذلك: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214].. أي ابدأ بنفسك يا محمد ثم بأهلك ثم بمجتمعك ثم بحيِّك ثم انقل هذه الدعوة إلى العالمين فقال الله تعالى له: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، فكانت هذه الرسالة رسالة العلم ورسالة العالمية فهي للعالم أجمع، وليست رسالة إقليمية لأهل مكة أو للجزيرة العربية وحدها..
أجل أيها الإخوة: إن قراءة سيرة النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم وفهمَ مقام القدوة يعلم القائد العسكريَّ فنون القتال وفنون الحركة وفنون قيادة الجيوش وفهم الأبعاد العسكرية، فها هو النبي عليه الصلاة والسلام في الغزوات يعلم أصحابه معنى الشورى، وفقه الشورى.. فيقول الله سبحانه وتعالى له: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159]
﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الشورى:38]
فيستشير أصحابه في غزوة بدر ثلاث مرات، ويستشير أصحابه في غزوة الخندق ثلاث مرات ويختار لهم حفر الخندق حول المدينة المنورة ليدفع عن نفسه شر الأحزاب..
وهكذا شرّع النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم فقه الشورى بشكل عملي، ولم يكن مستبداً برأيه ولم يخرج عن رأي الجماعة.. إنما استشار أهل الحل والعقد ثلاث مرات في غزوة واحدة، في غزوة بدر الكبرى، فما آل به الأمر إلا إلى ثبات الطريق وسداد الرأي فلم يضل ولم يضل قومه ولم يزل النبي عليه الصلاة والسلام عن واقع الأمة وعن حاجاتهم الاقتصادية والحياتية..
أجل أيها الإخوة: هكذا يتعلم القائد العسكري من خلال قراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام كيف يدير المعركة بالشكل الدقيق.. وأما القائد السياسي فإنه يتعلم من النبي عليه السلام الحكمة والحنكة والتروي في الأمور ويتعلم كيف يكسب الناس لصالحه..
فهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان له من يناصبه العداء: عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين كان ينقل الأخبار الكاذبة ويبث الشائعات ويرجف بين المؤمنين ليضعف من قدر النبي عليه الصلاة والسلام.. فماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ عرض عليه عمر أن يقتله، فقال يا عمر: "أتريد أن يتحدث الناس فيقولون إن محمداً يقتل أصحابه؟" لم يقتله بل إنه سايره وتعامل معه بحكمة وروية حتى أنه لما مات صلى عليه وكفّنه ببرده وقال لن ينفعه ذلك شيئاً.. إذاً كان النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم حكيماً سياسياً بارعاً يقدر الأمور تقديراً سليماً، ولا يقود أصحابه إلى الهاوية، ولا يجرهم إلى سواء السبيل.
من حيث التربية: كان النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم قدوة في تربية أصحابه، فكان يربي الصغير مثلما يربي الكبير وكان يحرص على المرأة مثلما يحرص على بناته وأمهات المؤمنين.. فكان عليه السلام يعامل الأطفال بخصوصية الطفولة، وكان يعامل الشباب بخصوصية الشباب، فلم يُرْوَ عنه عليه الصلاة والسلام أنه نفّر الشباب مِما حوله. فلما أتاه ذلك الشاب يقول ائذن لي بالزنا (وهذا اجتراء خطير على رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم – ربما كان يظن الشاب أنها عاطفة أو أنها ثورة ويحب أن يتصرف كيفما يحلو له)فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه – فقال : أدن مني . فدنا منه قريبًا قال: "أتحبه لأمك" قال : لا والله جعلني الله فداءك: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أتحبه لابنتك؟" قال : لا جعلني الله فداءك قال : "والناس لا يحبونه لبناتهم"... ثمتكرر السؤال أتحبه لأختك، لعمتك ، لخالتك كما تكررت الإجابة السابقة إلى أن قال : فوضع [رسول الله] يده عليه وقال: "اللهم أغفر ذنبهوطهًّر قلبه وحصّن فرجه" فلم يكن بعد ذلك الفتى يتلفت إلى شيء.. حاوره حواراً مقنعاً بالحجة والدليل.. فخرج الشاب من عند النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم وهو يقول والله ما شيء أبغض إلي من الزنا..
هكذا يكون المربي أيها الإخوة:
يتوسع.. يصبر.. يحلم.. يفكر في حاجات الأمة وتطلعاتهم وآمالهم..
ويعيش آلامهم أيضاً.. ويكون معهم وبينهم ومنهم وإليهم...
نعم أيها الإخوة: النبي عليه السلام قدوة لهذه الأمة بأخلاقها وسلوكها ومنهج حياتها وكل تطلعاتها.. في آمالها وآلامها.. ألم يكن النبي عليه الصلاة والسلام هو القائل: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".. كما جاء النبي عليه السلام بالعقيدة الصحيحة فإنه دعا إلى الأخلاق السوية.. فكان يحث أصحابه على الصدق والوفاء وكرم الضيافة وإكرام الجار ورعاية الحقوق وإكرام المرأة.. ولم يترك خُلُقاً من الأخلاق التي تتطلع إليها الإنسانية إلا كان النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم يدعو أمته إلى التمسك بهذه الأخلاق ويعلي هذه الأخلاق حتى سادت هذه الأمة سائر الأمم من حيث الجوانب الخلقية، كما أنها سادت فيما مضى من حيث الناحية العلمية فكانت أمة المسلمين الأمة المتفوقة علمياً، ودرَّست الجامعات الأوربية علوم المسلمين في الطب والفلك والهندسة والرياضيات وعلوم الإنسانية وفي الآداب كما أن علوم الشريعة الإسلامية انتشرت في بقاع الأرض كلها..
نعم أيها الإخوة.. فإذا كادت هذه الأمة قد سادت فيما سبق في الجانب الدعوي وفي الجانب العلمي وفي الجانب الانساني وفي الجانب العسكري.. فلم تخذل هذه الأمة أي بلد دخلت إليه، ولم تُسئ إليه ولم تتصرف بأي شيء تخجل منه أو تعتذر منه، أفلا يكون هذا المنهج قدوة لنا في حياتنا حتى نعيد لهذه الأمة تلك الريادة وتلك السيادة التي سادت بها الأمم والتي علت بسببها في كل جوانب الأرض؟
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من ذكرى النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم سبباً لنهوض هذه الأمة من كبوتها، وأن يجعلها سبباً لخلاص هذه الامة من أزماتها، وأن يفرّج الله عن هذه الأمة  في شهر سيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم ما أهمَّها وما أغمها وما هو أعلم به منها..
اللهم تولّ أمة سيدنا محمد صلَّى الله عليهِ وسلَّم.. واكلأها بعين رعايتك.. واحفظها بحفظك يا أكرم ويا أرحم الراحمين..
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين..