wwww.risalaty.net


صــبــر أيــــوب ..


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

 

خطبة الجمعة بتاريخ 23/3/2012
في جامع العثمان بدمشق
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، يا ربَّنا لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهكَ وعظيمِ سلطانك، سُبحانكَ لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك.. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، لهُ الملك ولهُ الحمد يُحيي ويميتُ وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهدُ أن سيّدنا ونبيّنا وحبيبنا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيُّه وخليلُه. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على هذا النبيّ الكريم، صلاةً تنحلُّ بها العقد، وتنفرجُ بها الكُرَب، وتُقْضى بها الحوائج، وتُنال بها الرغائب وحُسنُ الخواتيم، ويُستسقى الغمام بوجههِ الكريم، وعلى آلهِ وصحبهِ وسلّم تسليماً كثيراً..
أما بعدُ فيا عباد الله: أُوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله تعالى.. وأحثُّكم على طاعتهِ والتمسُّك بكتابه، والالتزام بسنَّة نبيّه سيدنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلَّم ومنهاجِه إلى يومِ الدِّين..
يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم في سورة الأنبياء ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿٨٣﴾فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ ﴿٨٤﴾وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ ﴿٨٥﴾وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾[الأنبياء: 38-86].
أيها الإخوة المؤمنون: سيّدنا أيوب عليه السلام نبيٌ من الأنبياء الذين ضرب الله بهم المثل فكان قدوةً في الصبر، و قدوةً في الشكر لله تعالى على ما امتحنه وابتلاه به . وقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصة سيدنا أيوب في سورة الأنبياء وفي ثلاث سور أخرى .
 فورد ذكره في القرآن الكريم أربع مرات وكلها تدل على أنه كان نبياً صابراً على البلاء محتسباً لله تعالى. فقد ذكره الله تعالى في سورة الأنبياء بعد سيدنا إبراهيم ولوط ونوح وداوود وسليمان. ﴿إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ وأيُّ ضرٍ أصاب سيدنا أيوب عليه السلام ؟ إنه ابتلاء من الله تعالى في النفس والمال والأهل.
ابتلاه الله تعالى في نفسه فمرض مرضاً شديداً ، قيل دام مرضه ثمانية عشر عاماً، وقيل ثلاثة عشر عاماً، وقيل سبع سنين ونيِّفاً ، أي : بضعة أشهر. وهذا المرض كما قال العلماء ليس مرضاً منفِّراً -كما تروي الروايات - ولا مشوِّهاً ، فالأنبياء معصومون عن الخطأ سالمون من العيوب و الأمراض المنفِّرة وكل ما يؤذي النفس البشرية. فصبر على مرضه كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿.. إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾[ص: 44]. صبر على ما ابتلاه الله تعالى في نفسه ماله وولده .
وابتلاه الله تعالى في ماله فكان سيدنا أيوب عليه السلام مِمَّنْ بسط الله لهم الرزق ، ومِمَّنْ أمدَّ الله لهم في أموالهم وأرزاقهم ، فَحُرم من ذلك المال كله. ابتلاه الله تعالى بزوال ماله فصبر عليه صبراً جميلاً ً.
وامتُحن سيدنا أيوب عليه السلام في أهله وكان عنده سبعة أبناء ذكور وسبع إناث، فابتلاه الله تعالى بأن انهدم عليهم البيت فماتوا جميعاً ، ولم يبق معه إلا زوجته المرأة الصالحة المطيعة التي كانت تخدمه ولا تمل منه ، إلى أن ضاق بها الأمر في يوم من الأيام فقالت : " إلى متى هذا البلاء ؟ " وكأن في ذلك اعتراضاً على قضاء الله وأمره، وكأن في ذلك شكوى ، يشتكي العبد بمثل هذا الكلام على الخالق لخلقه ، وهذا أسوأ أنواع الشكوى كما يقول الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى: الشكوى ثلاث: شكوى الخلق للخالق ، وشكوى الخالق للخلق، وشكوى النفس للخالق. أسوأها شكوى الخالق للخلق، شكوى القادر لمن لا يقدر، وشكوى القويّ للعاجزين، وشكوى من بيده الأمر إلى من ليس بيده شيء . وأيسرها شكوى النفس إلى الخالق سبحانه وتعالى.. فعلى الإنسان إن أراد أن يشتكي أن يرفع شكواه إلى الله ، أن يبثّ أحزانه إلى الله ،كما حصل مع سيدنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلَّم حينما رفع شكواه إلى الله بعد جملةٍ من المصائب والمحن التي تعرّض لها في حياته ، فقال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس". رفع أمره إلى الله، والمـُبْتلى إذا رفع أمره إلى الله ، وإذا اشتكى إلى الله، وإذا سلّم أمره إلى الله، فإن الله سبحانه وتعالى يلبي النداء، ويستجيب للعبد ما رفع إليه من حوائجه ، فيلبي نداءه ويحقق ما طلب ، وخاصةً إذا رفع العبد إلى ربه شكواه من باب ذُلِّهِ وعبوديَّته وفقره وعجزه وعدم قدرته على شيء، فقال: يا رب ليس لنا غيرك لنشكو لك ابتلاءاتنا ، ونرفع لك امتحاناتنا ، ونعبّر عن مصائبنا التي حلّت بنا، فإن الله سبحانه وتعالى حينما يسمع شكوى عبده يلبي نداه ، و يقول : لبيك لبيك عبدي ، وما عليك إلا أن تنتظر ساعة الفرج ، كما حصل مع سيدنا أيوب عليه السلام حينما قالت امرأته: " إلى متى هذا البلاء ؟ " أظهرت عجزها وهي لا تريد الاعتراض على الله، إنما أصابها شيءٌ من وسوسة الشيطان، فحلف أيوب عليه السلام أن يضربها بعد شفائه مائة ضربة ، ولكنَّ الله تعالى برَّ له يمينه وأراد له أن لا يحنث بها ، وأمره أن يأخذ ضغثاً ( والضغث هو مجموعةٌ من الحشائش والنباتات ) بحيث تكون حزمةً يبلغ عددها مائة من الحشائش والنباتات والعيدان ، وضربها بها ضربةً واحدةً خفيفةً غير مؤذية ، فبرَّ بيمينه إكراماً من الله سبحانه وتعالى له. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في القرآن الكريم حينما قال: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾[ص: 44]. أيتها المرأة الصالحة: يا مَنْ قُمْتِ بخدمة أيوب زمناً طويلاً ، ما الذي أصابكِ واعتراكِ الآن حتى تعترضي و تقولي : "إلى متى هذا البلاء ؟" .
 أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثاً "حزمةً من النباتات والحشائش التي لا تؤذي" فضرب بها امرأته فبرَّ بيمينه. ثم أذِن الله له بالشفاء.. بعد كل العناء والصبر والامتحان بالنفس والمال والولد أذِن الله له بالشفاء ، فأمره أن يركض الأرض برجله ، أي : أن يضربها ، فقال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُأَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ* ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾[ص: 41]. اركض برجلك.. جاء الأمر من الله تعالى بالشفاء.. جاء الإذن من الله تعالى بالفرج. إذاً ، المؤمن عندما يُبْتلى عليه أن ينتظر الإذنَ من السماء ، عليه أن ينتظر الإذنَ من الله ، فللفرجِ ساعة إذا آنَ أوانها فلن يقف دونها شيءٌ بإذن الله تعالى.. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ أي اضرب برجلك الأرض، هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فنبع من تحت أقدام سيدنا أيوب عليه السلام ، نبَعَ ماءٌ زلالٌ طاهر شرب منه اغتسل فيه ،  فشُـفِيَ بإذن الله تعالى. وكأننا نلحظ هنا - أيها الإخوة - أن الفرج كان سماوياً وأن الشفاء كان ربانياً، فقد عجز الأطباء ، أي عجزت الحلول كلها عن أن توجد فرجاً وشفاءً ومخرجاً لسيدنا أيوب من بلائه ومحنته ومصيبته، ولمـَّا التجأ إلى الله جاء الفرج من الله سماوياً، جاء الفرج من الله عُلْويّاً ، جاءت الاستغاثة التي استغاث بها سيدنا أيوب عليه السلام ربانيَّة لم تنظر إلى فلانٍ أو فلان، و لم تتطلع إلى شرقٍ ولا إلى غرب، وإنما كانت استغاثة بالله سبحانه، فاستجاب الله له وكشف ما به من ضر، وأعاد له أهله ومثلهم معهم ، من المال والذرية الصالحة ، وحقق الله لسيدنا أيوب عليه السلام أتباعاً فكان يدعو قومه من الروم الوثنيين إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
أيها الإخوة المؤمنون: لا يخفى علينا أنَّ الامتحان والابتلاء إنما هو اصطفاء من الله تعالى، فالنبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم يقول في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري والإمام أحمد والإمام الترمذي عن سيدنا سعد رضي الله عنه:"أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل".. هؤلاء هم الأكثر بلاءً وامتحاناً وصبراً والتجاءً إلى الله سبحانه وتعالى.
أجل أيها الإخوة ، إن الشدائد تصهر الرجال وتصنع الأبطال وتُظْهِرُ الناس على معدنهم الحق، إن المصائب يجمعنَ المصابينا، و المصائب تجمع الكلمة وتوحد القلوب.
ولننظر ماذا حصل مع سيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم يوم غزوة أُحُد ، كان في هذه الغزوة دروسٌ عظيمةٌ للمسلمين، كانت هزيمةً من حيث الظاهر إلا أنها كانت في الحقيقة دروساً عمليةً للصحابة وللتابعين ولنا إلى يوم الدين . فبعد أن خالف الرماة وعصوا أمر رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم -كما نعصيه وكما نُعْرِضُ عن سنته - ، استطاع المشركون أن يحاصروا المسلمين من جهتين وأن يضربوهم ضرباً مبرّحاً ، فسقط منهم الشهداء و الضحايا ، وفعل المشركون بأصحاب النبي صلَّى الله عليهِ وسلَّم ما فعلوا من الوحشية والإجرام مما يندى له الجبين ، فلم يكتفوا بقتل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بل مثَّلوا بالجثث، بقروا البطون وقلعوا العيون ، وجدعوا الأنوف، وقطعوا الآذان ، ومثّلوا تمثيلاً بشعاً بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأشاعوا بين الناس بأن محمداً قد قُتِل، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة يقف من حوله ثُلَّةٌ من أصحابه الصابرين يمسحون عنه الدماء التي روّت الأرض وهم يقولون: يارسول الله ألسنا على الحق؟ ألا تدعو الله عليهم ؟ وكان رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم صاحب القلب الكبير يقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" . كشأنه عليه الصلاة و السلام يوم ثقيف عندما انتظر من أهل ثقيف أن يؤمنوا ويُخرج الله من أصلابهم مَنْ يٌؤمِن ومَنْ يُوحِّد الله لا يشرك به شيئاً، وكان له ما أراد، وتحوّل أولئك المشركون إلى مصانع بشرية أخرجت كثيراً من الفاتحين والقادة الذين كانوا من أنصار سيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم.
نبينا عليه الصلاة والسلام صبر على ما ابتلي به، وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا الدرس، فهموا الدرس جيداً ، فلم يعصوا الله ولم يعصوا رسوله ، ولم تكتسب أيديهم فيما بعد ما يكون سبباً في نزول البلاء ، وإنما أذعنوا لله ولرسوله، واتبعوا الله ورسوله وأعرضوا عن كل ما يغضبه سبحانه وتعالى.
أجل أيها الإخوة: سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه حدَّث عن نفسه وعن أصحابه من المؤمنين فقال: ابتُلينا بالضرّاء فصبرنا، أي أصابنا الضر فصبرنا، و ابتُلينا بالسرّاء فلم نشكر. عشنا أيام رخاء فلم نشكر الله تعالى على أيام الرخاء، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم في الآثار أنه قال: "تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة". وهذا يدعونا في أيام الرخاء أن لا نقع في غفلةٍ عن الله ولا في معصية لسيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم.
ويقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو يعبّر أن المؤمن إذا ابْتُلي لا يجوز له أن يعترض على البلاء ، بل يجوز أن يرفع شكواه إلى الله فقط وليس إلى الخلق ، فقال: لأن ألحس جمرةً بلساني أحبُّ إليّ من أن أقول لشيء وقع لم وقع هذا ؟.
لأن ألحس جمرةً ؛ أي: لأن تحرق الجمرة لساني أحبُّ إلي من أن أعترض على ما ابتلاني الله تعالى ، وألتجئ إلى الله سبحانه وتعالى وأتعلم الدروس تلو الدروس كيف يكون في البلايا والمحن ما يجمع القلوب ويؤلف بينها ، ويوحد الصفوف لتتماسك قوتها ، ولكي تكون أيدي المؤمنين متماسكةً ببعضها كالبنيان يشد بعضه بعضاً، كما أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام.
وأخيراً أيها الإخوة جاء في الحديث عن سيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم : "إن الله تعالى خلق كل نفسٍ وكتب حياتها ورزقها ومصائبها".
نسأل الله تعالى أن نكون مِمَّنْ كتب لهم حياةً سعيدةً إيمانيةً، وأن تكون أرزاقنا أرزاقاً حلالاً طيبةً مباركةً، وأن تكون الامتحانات التي نمر بها ، والابتلاءات التي نتعرض لها مَّما يرفع درجاتنا عند الله سبحانه وتعالى، كما نسأل الله تعالى أن يفرج عن أهل البلاء في مواضع البلاء ، وأن يخص الله تعالى أهل الامتحان برفع الظلم عنهم، وأن يكون الله معهم، وأن لا يكون عليهم، وأن ينظر إليهم بنظرة العطف والمرحمة ، وأن نكون جميعاً ممَّنْ يتواصَى بالحق ويتواصَى بالصبر ، عملاً بالقرآن الكريم حيث أوصانا ربنا سبحانه وتعالى بذلك: ﴿وَالْعَصْرِ ﴿١﴾إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿٢﴾إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر: 1-3]
اللهم اجعلنا منهم.. أقول هذا القول وأستغفر الله.