wwww.risalaty.net


فضائل الإيثار


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

الإيثار هو أن تؤثر منافع غيرك على منافعك، أن تحب لأخيك كما تحب لنفسك،  وأكثر مما تحب لنفسك، أن تعطي لأخيك مثل أو أكثر مما تعطي لنفسك، أن تفضل منافع الغير على منافع نفسك رغبة في إرضاء الله سبحانه وتعالى

        أ- الإيثار خُلُق الفَضْل في الإسلام:
        وهو أعلى درجات السخاء، وأكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من صاحب خلق زكي، مُحب لله تعالى، مقدّم هذا الخلق على شهوات نفسه ولَذَّاتها وما يحلو له فعله. ومن رُزِق الإيثار فقد وُقِي شُحَّ نفسه كما قال الله تعالى:[]...وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[] سورة الحشر (9). والشح مرض خبيث وخطير، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "واتّقوا الشح، فإن الشح أهلكَ مَن كان قبلكم، حَمَلهم على أن سَفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم". صحيح مسلم. أي إن الشح والحرص على المال وعلى الدنيا والتنافس فيها ربما يؤدي بالإنسان إلى أن يرتكب محرّماً، أو يقع في فاحشة حتى يحافظ على ماله وعلى تنافسه فيه.
        ب- الإيثار خُلق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام:
        فإيثار رضا الله عز وجل على غيره ولو أغضب الخلق كلهم هو درجة الأنبياء وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، فإبراهيم عليه السلام سأل ربه الولد الصالح، فوهب له إسماعيل عليه السلام، فامتحنه الله بذبحه، فما كان من سيدنا إبراهيم عليه السلام إلا أن استسلم لأمر ربه فأقدم على ذبح ولده - الذي رزق به على كبر وهو وحيده حينذاك - إيثاراً لمحبة الله على محبة الولد، فكافأه الله سبحانه وتعالى عندما أراد تنفيذَ هذا الفعل بأن فداه بذبح عظيم. قال تعالى:[]وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)[] سورة الصافات. فسيدنا إبراهيم عليه السلام آثر محبَّة الله وأمره على محبة ولده، وسيدنا إسماعيل عليه السلام كان مثال الولد المطيع، الذي أعان والده على طاعة الله سبحانه وتعالى، فلم ينزعج من كلام أبيه ولم يقف في وجهه موقفَ المعاند، إنما قال له: افعل ما تُؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
        علّق الإمام ابن القيم على هذه الآيات في كتابه: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" (ص227): "لم يكن المقصودُ ذبحَ الولد، ولكن المقصود ذبحه من قلبه ليخلص القلب للرب، فلما بادر الخليل إلى الامتثال، وقدم محبة الله على محبة ولده، حصل المقصود فرُفع الذبح وفُدي الولد بذبح عظيم، فإن الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأساً، بل لابد أن يبقى بعضه أو بدَّله كما أبقى شريعة الفداء، وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة وكما أبقى الخمس صلوات بعد رفع الخمسين وأبقى ثوابها". وجاء في الحديث القدسي: (("ما يبدل القول لدي، وهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر")).
        وقد حاز نبينا صلى الله عليه وسلم على أعلى هذه الدرجة؛ فإنه قاوم العالم كله، وتجرد للدعوة واحتمل عداء القريب والبعيد في سبيل الله تعالى، بل كان همه وعزمه وسعيه كله مقصوراً على إيثار مرضاة الله سبحانه وتعالى، لذلك قال عندما عاد من الطائف وبعد أن آذاه أهلُها من ثقيف: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي". حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حُجَّته على العالمين، وتمّت نعمته على المؤمنين، فبَلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فلم ينل أحدٌ من درجة هذا الإيثار ومقامه ورتبته ما ناله صلوات الله وسلامه عليه.
        جـ- الإيثار يُكسب العبدَ رفعة في الدنيا والآخرة:
        يكتسب المتصف بهذا الخلق جميلَ الذِّكرِ في الدنيا - حيث إن القلوب جُبلت على تعظيم من يؤثرها - وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه إيثاره أفضل مما بذله. فهو يعلم عن يقين أن ما يقدمه اليوم يجده غداً هو خيراً وأعظم أجراً، قال تعالى:[]...وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً...[] سورة المزمل (20). وقال تعالى:[]إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)[] سورة فاطر. فيحتقر الدنيا ويزدريها، ويصطفي الآخرة ويختارها، ويُقبل على الله عز وجل فيُؤثر رضاه سبحانه وتعالى على رضا غيره، والموَفَّق من وَفَّقه الله سبحانه وتعالى.
        ء- الإيثار هو النهاية في الأخوّة:
        آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قَدِم المدينة المنورة بين المهاجرين والأنصار، وكان يحرص أن يؤاخي بين أنصاري من الأغنياء ومهاجر من الفقراء؛ حتى يكون هناك اعتدال وتوازن في هذه العلاقة، ويكفل أحدهما الآخر.
        وكان من جملة من تآخى سيدنا عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين، وسعد بن الربيع رضي الله عنهما من الأنصار، فقال سيدنا سعد بن الربيع لأخيه سيدنا عبد الرحمن بن عوف: "إني أَكثَر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت، نزلت لك عنها، فإذا حلّت، تزوجتَها". قال: فقال له أخوه عبد الرحمن بن عوف: "بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟". قال: سوق قينقاع. قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بإقط (اللبن الممجمد) (وهو اللبن محمض يجمد حتى يستحجر ويُطبخ، أو يطبخ به. المعجم الوسيط1/22) . ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صُفرة (المراد بالصفرة صفرة الخلوق، والخلوق طِيب يُصنع من زعفران وغيره، قاله الحافظ ابن حجر في الفتح كتاب النكاح 9/142) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجت؟ قال: نعم. قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار. قال: كم سُقت؟ قال: زِنَةَ نواة من ذهب" (وزن نواة بنصب النون على تقدير فعل أي أصدقتها، ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ أي الذي أصدقتها هو. قاله الحافظ ابن حجر في الفتح كتاب النكاح 9/142.) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة". (رواه البخاري 4/377/حديث 2048 كتاب البيوع).
        هذا من ثمرات الأخوّة في الله؛ لأن التمسك بحبل الله المتين ينقي القلوب ويصفّيها، ويجعلها تتطلع إلى السماء، يجعلها تنظر للآخرة، يجعلها تسير في درب الإيثار وطريق التضحية وسبيل الوفاء والبذل والعطاء دونما كَلَلَ أو تعب. فالمؤمن الذي يقدّم ما يملك هبة لأخيه ودعماً ومساندة له، فلا شك أنه سيحوز قلب أخيه، ويملك عليه روحه ومشاعره.
        إنهم مع حبهم ووفائهم لزوجاتهم يقدمون حب الله على حب نسائهم، إنهم مع هذا الحب الجم يؤثرون رضوان الله على هذا الود. إنهم مع رقة مشاعرهم وصدق أحاسيسهم ووفائهم لنسائهم يؤثرون إخوانهم وأحبابهم طمعاً فيما عند الله تبارك وتعالى. نفوس عفيفة نقية طاهرة لا تحمل في قلبها حقداً ولا حسداً. لقد كان هذا الصحابيّان الجليلان خيرَ أخوين تعاونا على البر والتقوى، فسجّلا مواقفَ مضيئة في صفحات التاريخ ستظل متلألئة عبر الأيام والدهور، ومشرقة في النفوس، فتحفزها على الإيثار والوفاء والعمل الطيّب والتوكل على الله تعالى، فبأي منهما تشبّهت أفلحت بإذن الله تعالى.
        هكذا يكون الإيثار، وهكذا يقدّم الإنسان جزءاً مما يملك لمن لا يملك من إخوانه المؤمنين.