wwww.risalaty.net


الإسراء والمعراج حكم ودلالات .. خطبة جامع العثمان 25/7/2008


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

 

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه من بعثه اللهُ رحمةً للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً.

بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصحَ الأمّةَ وجاهد الله في الله حق الجهاد ، وعبد اللَّه حتى أتاه اليقين من ربه . صلواتُ اللهِ وسلامه عليه وعلى أصحابه أجمعين .

أما بعدُ عباد الله :

أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله تعالى ، و أحثكم على طاعته و أستفتح بالذي هو خـير ..

 يقولُ اللهُ تعالى في كتابه العزيز : " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " (سورة الإسراء/1).

أيها الإخوة المؤمنون : بعد رحلة شاقة في عالم الدعوة إلى الله تعالى ، واجه فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصعوبات والشدائد ، وتحمل من صنوف الأذى ما تحمَّل ، جاءت معجزة الإسراء والمعراج ، رحلةً تكريميةً لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام .

وقد ابتدأت هذه الصعوبات والشدائد بما كان يتعرض له رسول الله من محاولات الإيذاء المستمرة ، ومنها محاولة خنق رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر إسماعيل إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقل أبو بكر – رضي الله عنه – حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ؟ "

وكذلك اعتداء  عقبة بن أبي معيط مرة ثانية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلقائه سلا الجزور على ظهر ه عليه الصلاة والسلام وهو ساجد ، ثم تتابع الأذى حتى طال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و من ذلك ما رواه البخاري عن خباب بن الأرتّ – رضي الله عنه – أنه قال : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهم متوسد بردة له في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلت يا رسول الله : ألا تدعو الله لنا ؟ فقعد وهو محمرُّ الوجه ، فقال : لقد كان فيمن قبلكم ليُمْشَطُ بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه . وليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسر الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه " .

أيها الإخوة المؤمنون : هذا نموذج من الإيذاء والاعتداء الذي واجهه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة إلى الله تعالى ، ثم تلا ذلك سلسلة من الاعتداءات كان من أبرزها حصار الشعب الذي دام نحواً من ثلاث سنوات ، حتى أجهدهم الحصار و أكلوا ورق الشجر .

 وتتالى المصائب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفقد في عام واحد زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها وعمًّه أبا طالب الذي كان من أكبر المدافعين عنه ، وكان يقف في وجه طغاة المشركين الذين حاولوا كثيراً التخلُّص من وجود سينا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة .

و لما ضاقت السبل في وجهه عليه الصلاة والسلام فكَّر في إيجاد فسحة للدعوة ومتنفس جديد خارج مكة ، فقصد الطائف ، وهي العمق الاستراتيجي لمكة ، ومصطاف أثريائها ، ليدعو أهل ثقيف ، لكنَّ المفاجأة كانت كبيرة ، حينما استقبله أهل ثقيف أسوأ استقبال ، و أغروا به سفهائهم وصبيانهم ، فرموه بالحجارة حتى سالت الدماء من عقبيه الشريفتين ، وهنا كانت محطة مهمة ، وهي نقطة التحول ، ففي طريق العودة إلى مكة ، وقد أصابه من الهم والحزَن ما أصابه ، التجأ إلى الله تعالى قائلاً : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، و أنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملَّكته أمري ؟ إنْ لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي .. " .

الله أكبر ، " إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي " ، هكذا علمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم درساً عظيماً في الالتجاء إلى الله تعالى ، و أن نطرق أبواب السماء بمفاتيحها الدقيقة ، وأن ندخل من باب العبودية والذل والافتقار والانكسار . إن هذا المنهج هو ما تحتاج إليه أمة سيندنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام ، مع التركيز على النقطة المهمة التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي : " إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي  " .

أيها الإخوة المؤمنون :

إن الإسراء والمعراج معجزة تكريمية لسيدنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

أما الإسراء فثبت بنص القرآن الكريم والحديث الصحيح ، فيجب الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم أَسرى الله به ليلاً من مكَّةَ المكرمة إلى المسجدِ الأقصى.

وقد جاء في تفسيرِ قوله تعالى : " سُبْحَانَ الَّذِي أَسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً " أن من معاني السَّبْح في اللغة العربية : " التَّباعُد "ومعنى سَبِّحِ  اللهَ تعالى ، أي :بَعِّدْهُ ونزِّهْهُ عمّا لا ينبغي.

و أما قوله تعالى : " بِعَبْدِهِ : فهي إشارة واضحة وحجة قوية على من أنكر أن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد معاً ؛ لأن العبد إنما هو روح وجسد .

و أما نِسبة النبي صلى الله عليه وسلم  إلى ربِه بوصف العبودية فهي غاية الشَرفِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عِباد الله كثير ، فَلِمَ خَصَّهُ في هذهِ الآيةِ بالذكّرِ ؟ ذلك لتخصيصه بالشرفِ الأعظم.

وقولُهُ تعالى : " لَيْلاً "  إنَما قال : " لَيْلاً " مع أن الإسراء لا يكون إلا في الليل ؛ لأنه أراد به تأكيد تقليل مدة الإسراء ، فإنه أُسريَ بهِ في بعض الليلِ من مكة إلى الشام .

وقوله تعالى : " مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى " إنما سمي المسجد الحرام لحرمته ، أي : لشرفه على سائر المساجد ؛ لأنه خص بأحكام ليست لغيره.

والمسجد الأقصى إنما سُمِّي بذلك لبعدِ المسافةِ بينه وبين المسجد الحرام.

وقوله تعالى : " الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ " لأنه مَقَرُّ الأنبياء ومهبط الملائكة ، لذلكَ قال إبراهيم عليهِ السلام  :" إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ " أي إلى حيث وجهنِي ربِي ؛ أي : إلى بر الشام ؛ لأنه عرف بتعريف الله إياه أنَّ الشامَ مَهْبِطُ الرَّحمات ، وأنَّ أكثر الوحي يكون بالشامِ ، وأن أكثرَ الأنبياءِ كانوا بها.

قال تعالى :" لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا " فما رأى تلك الليلة من العجائب والآيات تدل على قدرة الله تعالى .

أيها الإخوة المؤمنون : لقد أجمعَ أهل الحق على أنن الإسراء والمعراج كانا بالروحِ والجسد وفي اليقظةِ ، ومن أنكره فقد كذب صريح القرآن .

وقد كانت تلكَ المعجزةُ العظيمةُ في السنةِ الخامِسَةِ قبلَ الهجرةِ فقد جاءَهُ جبريلُ ليلاً إلى مكَّةَ وهو نائمٌ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم نائماً في بيتِ أمّ هانىءٍ بنتِ أبي طالبٍ أختِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنهما ، كان هو وعَمّه حمزةُ فأيقظَهُ جبريلُ عليه السلام ثم أركبَهُ على البُراقِ خلفَهُ وانطلقَ بهِ ( والبُراقٌ دابةٌ من دوابِّ الجنّةِ وهو أبيضٌ طويلٌ يضَعُ حافِرَهُ عند منهى طرْفه ) ، وانطلقَ بهِ البُراقُ حتى وصلا الكعبة المشرفة ، حيثُ شُقَّ صدرُه من غيرِ أن يُحِسَّ بألم ثم أُعيد كما كان ، وذلك بعد أن غُسِلَ قَلبه وملئ إيماناً وحكمة ، إعداداً للأمر العظيم الذي ينتظره ، ثم انطلقا حتى وصلا بيتَ المقدِسِ ، فربَطَ البُراقَ بالحَلَقَةِ التي يَرْبِطُ بها الأنبياءُ ثم دخلَ المسجدَ الأقصى فصلَّى فيهِ ركعتين.

وصلّى بالأنبياء إماماً، جمَعَهم الله له هُناك تشريفاً له وتعظيماً ، ولما خرج جاءهُ جبريلُ عليه السلام بإناءٍ من خمرِ الجنةِ لا يُسكِرُ ، وإناءٍ من لبَنٍ ، فاختَارَ النبيُ صلى الله عليه وسلم اللبنَ ، فقال لهُ جبريل : "اخترتَ الفِطرةَ " أي تمسَّكْتَ بالدين.

ثم نُصِبَ المعراج ، والمعراج مِرقاة شِبْهُ السُّلَّم ، فصعد به جبريل عليه السلام إلى السماء وقد ثبت المعراج بنصِّ الأحاديثِ الشريفة ، وأما القرءان فلم يـنص عليه نصَّاً صريحاً ، قال تعالى : " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى " . (سورة النجم/14-15-16).

ثم صَعِدَ به جبريلُ حتى انتهيَا إلى السماءِ الأُولى، وفي السماءِ الأولى رأى آدَمَ وفي الثانيةِ رأى عيسى ويحيى وفي الثالثةِ رأى يوسُفَ عليهم السلام .

قال عليه الصلاةُ والسلامُ : " وكان يوسُفُ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ " يعني نِصْفَ جَمَالِ البشَرِ الذي وُزِّعَ بينهم . وفي الخامسة رأى هارون ، وفي السادسةِ رأى موسى وفي السابِعَةِ رأى إبراهيم عليهم السلام أجمعين وكانَ أشْبَهَ الأنبياءِ بسيدنا محمد من حيث الخِلْقَةُ ورآه مُسْنِداً ظهرَهُ إلى البيتِ المعمُورِ الذي يدخُلُه كُلَّ يومٍ سبعُونَ ألفَ مَلَكٍ ثم لا يعُودونَ إليهِ.

 ثم ذُهِبَ برسولِ اللهِ إلى سِدْرَةِ المنتهى وهي شجرةٌ عظيمةٌ وبها من الحُسْنِ ما لا يستطيعُ أحدٌ من خَلْقِ اللهِ أن يَصِفَهُ ، وجَدَهَا يغشاها فَراشٌ من ذَهبٍ وأوراقُها كآذانِ الفيلَةِ وثِمارُها كالقِلالِ ،والقِلالُ جمْعُ قُلَّة ، وهي الجَرَّةُ ، كأنها قلال هجَر ( كناية عن عظمها شبهها بقلال هجر ، وهي قرية في البحرين تعرف بكِبَر قلالها ) . ثم سارَ سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم وحدَهُ حتى وصَلَ إلى مكانٍ يسمَعُ فيهِ صريفَ الأقلامِ التي تنسَخُ بها الملائكةُ في صُحًفِهَا من اللوحِ المحفوظِ ثم هُناكَ أزالَ اللهُ عنْهُ الحِجَابَ الذي يَمنعُ من سَماعِ كلامِ اللهِ الذي ليسَ حرفاً ولا صوتاً، حتى أسمَعَهُ كلامَهُ.

و هناك أيضاً أزَالَ الله تعالى عن قلبِهِ الحجابِ فرأى اللهَ تعالى بقلبِهِ،أي جَعَلَ اللهُ له قوَّةَ الرُؤيةِ والنظَرِ بقلبه، فرأى اللهَ بقلبهِ ولم يَرَهُ بعينَيْ رأسِهِ ؛ لأنَّ اللهَ لا يُرَى بالعينِ الفانِيَةِ في الدنيا وإنما يُرى بالعينِ الباقيةِ في الآخرةِ ، كما نصَّ على ذلك الإمامُ مالِكٌ رضي اللهُ عنه .

ولو كان يراهُ أحدٌ بالعينِ في الدنيا كان رآه سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لذلك قال عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "واعلَمُوا أنَّكُم لن تَرَوا ربَّكُم حتّى تموتوا ".

ثم إنّ نبينا صلى الله عليه وسلم لما رجَعَ من ذلِكَ المكانِ كان من جملةِ ما فَهِمَهُ من كلامِ اللهِ الأزليِ أنّهُ فُرِضَ عليه خمسون صلاة ثم رجع فوجد سيدنا موسى في السماءِ السادسةِ فقال له " ماذا فرضَ اللهُ على أُمَّتِكَ" قال: " خمسين صلاة " قال "ارجع وسل ربك التخفيف" أي : ارجع إلى حيثُ كُنْتَ وسَلْ ربَّكَ التخفيف فإني جرَّبْتُ بني إسرائيل ، فُرِضَ عليهم صلاتان فلم يقُوموا بهما" فرجعَ فَطَلَبَ التخفيفَ مرةً بعد مرَّةٍ إلى أن صاروا خمسَ صلواتٍ. وهذا دليلٌ واضح على أن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام ينفعُونَ بعدَ موتهم .

ثم إنَّ الرسولَ لمّا رَجَعَ أخبرَ قومَهُ بما حَصَلَ مَعَهُ فقالُوا له : " من هنا إلى هناكَ مسيرةُ شهرٍ" وكان فيهم من يعرِفُ بيتَ المقدِس فقالوا له : " كم باباً ببيتِ المقدِس" فكشَفَ اللهُ له فأراهُ إياه ، فصارَ يعدُّ لهم وهو ينظرُ إلى الأبواب واحداً واحداً فسكتو ا، ولما جاء سيدنا أبو بكر رضي الله عنه قيلَ لهُ : " صاحبُك يدّعي أنّه أُسريَ به " قال " إنّهُ صادقٌ في ذلك أنا أُصَدِّقُهُ  في خبرِ السماءِ روحة أو غدوة ، فكيف لا أُصدقُهُ عن خبر الأرض".

وهكذا تمت معالم هذه الرحلة التكريمية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلينا أن ندرس هذه المعجزة دراسة متأنية لنستنبط منها الدروس والعبر المهمة ، التي تنفعنا في ديننا ودنيانا .

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، والحمد لله رب العالمين .

أقول هذا القول و أستغفر الله ، فيا فوزاً للمستغفرين .