wwww.risalaty.net


رمضان شهر الانتصارات


بقلم : محمد خير الطرشان

 

 

 

 

 

 

المسجد : جامع بني أمية الكبير بدمشق

المقدمة :

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، ونشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير

 

وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من بين خلقه وخليله، خير نبي اجتباه، هدى ورحمة للعالمين أرسله..

 

صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران:123]

 

أيها الأخوة المؤمنون: إن هذا الشهر العظيم، شهر رمضان المبارك الذي نعيش في العشر الثاني منه، والذي سمَّاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عشر المغفرة بقوله: «وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار» إن هذا الشهرَ شهرُ الانتصارات، وشهر الفتوحات ؛ إذ منَّ الله تعالى فيه على الأمة الإسلامية بالنصر على أعدائها في المعارك التي خاضتها أمتنا الإسلامية قديماً وحديثاً، منذ عصر النبوة وإلى عصرنا الحاضر هذا..

 

فما من غزوة من الغزوات، ولا معركة من المعارك خاضها المسلمون في هذا الشهر المبارك إلا وتحقق لهم النصر على أعدائهم، وكُتب لهم الغلبة والتمكين، وإن في ذلك لدلالة على قيمة هذا الشهر ومنزلته العظيمة عند الله سبحانه وتعالى.

 

ولقد كان من أبرز الأحداث التاريخية التي وقعت في شهر رمضان المبارك غزوةُ بدر الكبرى التي جرت أحداثها في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وفتحُ مكةَ المكرمة، فتحُ البطولة والمرحمة في العشرين من رمضان سنة ثمانٍ للهجرة، وفتحُ عمُّوريةَ بقيادة الخليفة العباسي المعتصمِ بالله في السادس من رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين للهجرة، وفتحُ بعلبكَّ في بلاد الشام في الرابع عشر من رمضان سنة سبعين وخمسمائة للهجرة، ومعركةُ عينِ جالوت، حيث سجل المسلمون نصراً مؤزراً على المغول بقيادة السلطان المظفر قطز، في الخامس والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين للهجرة.

 

وفي العصر الحديث: حرب تشرين، التي وقعت في العاشر من رمضان المبارك عام ثلاثة وسبعين وتسعمائة وألف، والتي سطر فيها جنودنا البواسل أروع لوحات العز والبطولة والكرامة، في الدفاع عن حياض الوطن واسترجاع حقوقنا المغتصبة في الجولان السوري والقدس المحتلة، نسأل الله تعالى أن يحقق للمسلمين فرجاً عاجلاً لهما، ونصراً عزيزاً مؤزراً.

 

والذي يعنينا اليوم هو الحديث عن غزوة بدر الكبرى، التي توافق تاريخياً يوم غدٍ السابعَ عشر من رمضان، والتي أودع التاريخُ سراً عظيماً تكتنفه الهيبة، وجعل من أدوار القتال فيها موعظة خالدة، لا تفتأ تتجدد ذكراها، ما بقي في الدنيا قتال بين الحق والباطل، وصراع بين النور والظلام، ففي اليوم السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة الشريفة، وقعت غزوة بدر الكبرى، وكانت فيها قوة المسلمين ثلاثمائة وثلاثةَ عشرَ مقاتلاً ؛... ليس معهم إلا سلاح خفيف: سبعون بعيراً وفَرَسان، وقد خرجوا لا للقتال، وإنما للاستيلاء على قافلة قريش القادمة من الشام تعويضاً عن أموالهم التي سلبتها قريش منهم عند الهجرة، أو تركوها لطغاتها هرباً بدينهم وعقيدتهم من الاضطهاد والعذاب الشديدين، وستظل غزوة بدر الكبرى علامة فارقة في تاريخ الإنسانية، وقصة عقيدة راسخة، وقلوبٍ ثابتة واثقة، متعلقةٍ بالله تبارك وتعالى، وليس أدلَّ على ذلك من موقف قائد المعركة سيدِنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لجأ إلى الله تبارك وتعالى مستنجزاً وعده بالنصر والتمكين، ماداً يديه إلى السماء، رافعاً أكفَّ الضراعة إلى خالقه العزيز، قائلاً: « اللهم أنجِزْ لي ما وعدتني». وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الحال مستغرقاً في الدعاء والالتجاء والاستغاثة بقيوم السماوات والأرض، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، ونزل الوحي الأمين مبشراً بقوله تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾.

 

أيها الأخوة المؤمنون: لقد فُرضَت موقعةُ بدر على المسلمين فَرْضاً، وفوجؤوا بتحدي صناديد قريشٍ لهم، فلم يكن بُدٌّ من قبول هذا التحدي، وواجه النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه هذا الموقف بما يتطلبه من إيمان بالله وثقة به واعتصام، فبايع المهاجرون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على الشهادة في سبيل الله تعالى وسمع من أبي بكر وعمر { القولَ الحسن، ثم وقف المقداد بن عمرو قائلاً: (يا رسول الله: لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة:24] ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك ومن خلفك، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).

 

ويقف زعيم الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنه قائلاً: (يا رسول الله قد آمنَّا بك وصدقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا على السمع والطاعة، فامض لما أردْتَ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلَّف منا أحد، وإنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، فَسِرْ بنا يا رسول الله لعل الله يريك منا ما يشرح صدرك).

 

ههنا تتجلى وحدة الصف الإسلامي، وتماسكُ الجبهة الداخلية، والتفاف المسلمين وصدقهم فيما عاهدوا الله عليه، وهذه هي ثمرة الشورى التي رسخَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه، من خلال مواقفهم وآرائهم الدالةِ على محبتهم الصادقة، بعيداً عن التملق والنفاق.. وهيهات هيهات لمن يحمل هذا الإيمان أن يَذِلَّ أو يُهزَمَ، أو يكون بعيداً عن تأييد الله ونصره.

 

إن الإيمان بالله تعالى هو السلاح الوحيد الذي لا يوجد في ترسانة الغرب أو الشرق، وهذا ما عبَّرَت عنه هذه القلة المؤمنة في ثَباتها، وضربت أروع الأمثلة في الشجاعة والإقدام في وجه جحافل الظلم والشرك والطغيان، فكانت لهم الغلبة والنصر المبين، ووطئت أقدامهم جباهاً وحدوداً طالما استكبرت أن تسجد لله رب العالمين.

 

أيها المؤمنون: لقد صدق المؤمنون ما عاهدوا الله عليه، وأخذوا بكل أسباب النصر، وأعدوا العُدة للقتال قَدْر استطاعتهم، ثم عزموا وتوكلوا، فصدقهم الله تعالى، وأيدهم بنصره وبجنود لم يروها، وصدق الله تعالى القائل: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال:17]

 

لقد أخذ رسول الله والمسلمون بالأسباب، فجهز الجيش، وأعد العدة، ووحد الصفوف، واستشار أصحابه، وبعد ذلك كله توجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء

معلناً ضعفه وافتقاره إليه سبحانه، فكانت النتيجة مدداً إلهياً وعوناً ربانياً، كما قال

تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ  ﴾ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم عينه جبريل # آخذاً بعنان فرسه عليه أداة الحرب، ليحارب في صفوف المسلمين، وهنا جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأخذ بالأسباب وبين التوجه إلى الله بالدعاء، وبين الأخذ بمبدأ الشورى واستطلاع آراء أهل الخبرة، وبين تجهيز الجيوش وتوحيد الصفوف، وبين الالتجاء والاستغاثة، وإن الله تعالى يقوي الفئة المؤمنة الني بلغت في خشوعها وإخباتها وإنابتها، وصدقها في التوكل على الله بلغت درجة (الذِّلة) التي عبَّر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾

 

إنها قلوب وثيقة الصلة بالله تبارك وتعالى، بينما كان المشركون في غرورهم وصَلَفهم وجبروتهم، وعددهم وعُدَّتهم كانوا مستهينين بالمسلمين، الذين صح عزمهم أن يموتوا شهداء في سبيل الله ورسالته؛ لأن سلاحهم الأول هو الإيمان الكبير، واليقين الثابت بنصر الله تعالى لهم ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾.

 

هكذا ذاق المسلمون حلاوة النصر، الذي كان فاتحة مرحلة جديدة من عمر الدعوة الإسلامية، حيث وضعت هذه الغزوة الإيمان والكفر، والحق والباطل، والنور والظلام، وجهاً لوجه، فغلب الإيمانُ، وصدعَ الحقُّ، وسطعَ النورُ، فبدَّدَ الظلامَ، وأخفقَ الباطلُ، وتولَّى الكفر فلا رجعة له.

 

لقد كانت (غزوة بدر) التي ابتدأت وانتهت بتدبير الله تعالى وتوجيهه ومدده، كانت فرقاناً بين الحق والباطل، الحقِّ الذي قامت عليه السماوات والأرض، الحقِّ الذي يتمثل في تفرد الله بالألوهية والسلطان، والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كلِّه لهذه الألوهية المتفردة.

 

كانت فرقاناً بين العبودية للأشخاص والأهواء والعادات والتقاليد، وبين الرجوع لله الواحد، لا إله غيره ولا متسلِّطَ سواه، ولا حاكم من دونِهِ ولا مشرِّع إلا إياه.

 

فارتفعت الهامات بعد هذه الغزوة لا تنحني إلا لله، وتساوت الرؤوس فلا تخضع ولا تسجد إلا لحاكميته وشرعه.

 

كانت (غزوة بدر) فرقاناً بين عهدين في تاريخ الدعوة الإسلامية: عهدِ الصبر والمصابرة والصمت والانتظار، وعهدِ القوة والغلبة والمبادأة والاندفاع، الذي جعل من الإسلام منهجاً جديداً للوجود الإنساني، وأعطى تصوراً جديداً للحياة، ونظاماً حديثاً للمجتمع، وإعلاناً عاماً وعالمياً لمبدأ تحرير الإنسان من عبودية الإنسان إلى عبودية الله الواحد الأحد.

 

كانت (غزوة بدر) فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر والهزيمة، فقد جرت وقائع المعركة وعوامل النصر من حيث الظاهر في صف المشركين، وعوامل الهزيمة من حيث الظاهر أيضاً في صفوف المؤمنين، وكانت النتيجة أن انتصرت القلة العددية مع قوة العقيدة والإيمان، على الكثرة العددية مع الزاد والعتاد، المعتمد على الغرور والكبرياء والتسلط والقهر.

 

 

لقد سكنت قلوبُ المؤمنين واطمأنت، وأيقنت بنصر الله العزيز الحكيم لا بشدة البأس والقوة، ومن هذا اليقين تتالت جنود الله تعالى داعمة لعباده المؤمنين، فكان النعاس الذي غشيهم أمنةً من الله سبحانه، إذ ألقى عليهم النعاسَ ليقويهم بالاستراحة على القتال من الغد، ولكي يُزيلَ الرعب من قلوبهم، ثم أَتبع ذلك بالغيث المغيث والمنقذ، فشرب المسلمون منه وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبتت أرض المعركة الرملية بعد نزول الغيث، ومشى الناس عليه، مما جعل أرض المعركة تصلح للقتال، ومهيئةً لنزول جبريل وميكائيل ^، يقود كلٌّ منهما خمسمائة من الملائكة، ليصبحوا ألف ملك عوناً ورديفاً للمقاتلين المؤمنين.

 

يسبقهم في ذلك كفٌّ من الحصى، شاهت به وجوهُ القوم الكافرين، وأَرعبتْ قلوبَهم، وزَلزلتِ الأرضَ من تحت أقدامهم، وصدق الله العظيم القائل ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ 

 

نعم، لقد تشتت قوتهم، وتبدد عددهم، وانهزموا لا يلوون على شيء، وألقوا دروعهم، والمسلمون يأسرون ويقتلون، وساحة المعركة تنحسر عن نصر مؤزر للمسلمين.

 

فلنتذكر دائماً أيها المؤمنون هذه الدروس التاريخية العظيمة ولنعلم أن الإيمان بالله هو السلاح الأمضى والأقوى، وهو ما ينبغي أن نتمسك به، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما أحرانا اليوم، ونحن نستعيد دروس غزوة بدر وأمجادَها وبطولاتِ المسلمين، أن تستيقظ فينا مشاعر الإيمان والتوحيد، والعقيدة وحب الأوطان، لنعمل على تحرير ما اغتصب من أرضنا في الجولان السوري الحبيب، والمقدسات الإسلامية، ونطهر الحرم الإبراهيمي الأسير والمسجد الأقصى المغتصب، مستفيدين من دروس غزوة بدر ومعانيها، والتي من أهمها: إخلاص النية في القتال، والثبات في المعركة، والأخذ بكافة الأسباب، وإعداد العدة والابتعاد عن أسباب الشحناء والبغضاء والاختلاف الذي يمزق الصفوف، والتوكلُ على الله تعالى والالتجاء إليه.

 

﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ [الأنفال:29]

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُواْ ۚ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45-46]

 

( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال:60]

 

اللهم فرج عن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما أهمها وأغمها وما أنت أعلم به منها، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير، اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، ما اتصلت عين بنظر وسمعت أذن بخبر.

 

أشهد بأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد.

 

أيها الإخوة المؤمنون:

 

جاءت الشريعة الإسلامية سمحة في تعاليمها ميسرة في دعوتها سواء كان ذلك في العبادات أو المعاملات قال عليه الصلاة والسلام: «رحم الله عبداً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى» لأن هذا النوع من حسن المعاملة بين الناس يشيع بينهم الألفة والمحبة ، وييسر الأمور على العباد. ومن ذلك دعوة القرآن الكريم إلى أكل المال الحلال الطيب بالحق، وتحريم أكل المال بالباطل. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ  ﴾. وتحريم ما يوغر الصدور، قال عليه الصلاة والسلام: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» وتحريم الغش، قال عليه الصلاة والسلام: «من غش فليس منا». ومن المعاملات المحرمة في الإسلام التي يكون فيها إيغار الصدور وأكل المال بالباطل والتضييق على عباد الله: الاحتكار والمغالاة في الأسعار. وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» [رواه مسلم]. وإن هذا العمل في طياته بذور الهلاك والدمار لما يسببه من ظلم وغلاءٍ في الأسعار وإهدارٍ لتجارة المسلمين وصناعتهم وتضييق لأبواب العمل والرزق. وهو نوعٌ من محبة الذات وتقديم النفس على الآخرين. ويؤدي إلى تضخم الأموال عند طائفةٍ قليلةٍ من الناس. ومن سياسات الشريعة ألا تتكدس الأموال لدى طائفةٍ قليلةٍ محدودةٍ من الناس، بل تتوزع وتنتشر. كما في قوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ أن يبقى المال محصوراً متداولاً بين الأغنياء منكم وليس للفقراء منه شيء. والاحتكار حبس ما يحتاج إليه الناس والامتناع عن بيعه حتى يرتفع سعره ويكون الغلاء الفاحش بسبب قلته. وهذا ليس خاصاً بالأقوات. بل هو عامٌ في كل ما يحتاجه الناس ويقعون في حرجٍ أو ضيقٍ إذا فقد أو قل. أو ارتفع سعره ارتفاعاً فاحشاً سواءً كان طعاماً أو لباساً أو دواءً أو عقاراً. وسواءً كان عيناً كالمحركات والأبنية والآلات والأطعمة، أو كان عملاً كالحرفة والصناعة. ويدل عليه عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ»

 

عباد الله!

 

إن الشريعة قد جاءت رحمة للعباد، والله سبحانه من أسمائه الرحيم، وكذلك فإن الإحسان إلى الناس يخالف هذا الفعل أشد المخالفة. وقد قال سبحانه: ( وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  ﴾ .

 

 وإذا كانت قواعد الأخوة في الإسلام تدعو إلى المحبة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أحب للناس ما تحب لنفسك» فكيف يلجأ بعض الناس إلى حب ذواتهم وتقديم مصالحهم وأهوائهم على ما ينفع الناس؟.

 

والاحتكار بعدٌ عن منهج الله تعالى وغيابٌ للتقوى ونوع طمعٍ وجشع. ويترتب عليه أنواع من الأمراض الاقتصادية والاجتماعية كالبطالة والرشوة والشحناء والبغضاء

 

والعبد حرٌّ ما قنع والحر عبدٌ ما طمع

 

فما أبعد هذا التصرف عن روح الشريعة. «يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام» [رواه البخاري]

 

وبدلاً من الاستغلال لموسم الخير برفع الأسعار والمغالاة فيها فأن هذا الشهر المبارك فرصة لتحقيق مفهوم التكافل الاجتماعي.هذا الشهر الكريم فرصة ذهبيَّة للبر والإحسان إلى الناس، وحمل هموم الأمَّة المسلمة بالقيام بأداء حقوقها ؛ فيتفقَّد المؤمن إخوانه من والفقراء والمحتاجين والمساكين، ويقوم بخدمتهم وأداء حقوقهم، ويتعاون مع الجمعيات الخيريَّة ويدلها على الفقراء والمساكين، الذين لا يسألون الناس إلحافاً، وكذلك يقوم بإخراج الزكاة إنَّ حان موعدها في هذا الشهر الكريم، ويصرفها في أهلها الذين يستحقونها، ويشعر بشعور الضعفاء والفقراء، ويحاول قدر الإمكان أن يقدم لهم خدماته، والله عزَّ وجل سيجزيه خير الجزاء.

 

عباد الله:

 

اعلموا أن الله أمركم بأمر عظيم بدأ به بنفسه وثنى بملائكة قدسه، فقال ولم يزل قائلاً عليماً، تعظيماً لأمر نبيه وتكريماً: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾.

 

   

                                                                 خطبة الجمعة للشيخ محمد خير الطرشان

                                                                        في مسجد بني أمية الكبير

                                                                  في 16/ رمضان / 1428 هـ  2007 م

                                                               ونقلت الخطبة عبر إذاعة دمشق على الهواء